*روتو.. نفي الواقع إثبات للوهم* د. ياسر محجوب الحسين
*روتو.. نفي الواقع إثبات للوهم*
د. ياسر محجوب الحسين
في عالم السياسة، قد يكون الصمت أبلغ من الكلام. لكن حين تتكلم الحكومات، فمن الحكمة أن تختار كلماتها بعناية، وتزن عباراتها بميزان الدبلوماسية، لا بميزان الهواجس والنفي والتبرؤ.
قرأت، كغيري، البيان الصادر عن من سُمِّي “رئيس مكتب الاتصال الاستراتيجي” في حكومة الرئيس الكيني وليام روتو. كان بيانا أراد أن يُفنّد، فإذا به يُدين. أراد أن يوضح، فإذا به يزيد الطين بلّة، ويقع في المحظور الذي فرّ منه، وكأنّ المريب قال: خذوني!
لقد جاء الخطاب من طراز “نفي النفي” الذي لا يُفضي في ميزان المنطق، إلا إلى إثبات صريح للتُّهم التي حاول التملّص منها.
تحدّث البيان عن “مزاعم لا أساس لها” تنسب إلى السودان اتهام كينيا بالتدخل. وكأن الوقائع الصارخة والصور الجوية، واستقبال قادة المليشيا على أراضيها، باتت ضرباً من الخيال! يتحدث البيان عن احترام السيادة، فيما لا تزال شوارع نيروبي تحفظ بصمات أقدام قائد التمرد ونائبه. كما تصدح قاعاتها بإعلانات “اتفاق المنفى” الذي وُلد خارج رحم الوطن. سُمّي تجاوزاً اتفاقاً، وهو في حقيقته محاولة مفضوحة لمنح شرعية زائفة لكيان مسلّح يعيث في الأرض فسادا.
لم تكن كينيا، ومنذ اندلاع الحرب في السودان، على الحياد. بل شمّرت عن أكمامها مبكراً، وخلعت قناع الوساطة، واصطفت بوضوح مع طرف المليشيا. فتحت أبوابها لقيادات تمرد لا تخجل، وقدّمت لهم المنابر والمواكب، وموائد اللئام. كما تولّت الترويج الإعلامي والسياسي لما أسموه “حكومة المنفى”. هذه سابقة تتجاوز حدود الأعراف، وتكسر قواعد الأخلاق، وتطعن في صميم الأعراف الدبلوماسية. لم تكتفِ بالتحريض في أروقة منظمة “الإيقاد”، بل مضت أبعد. فجعلت من أرضها معبراً للأسلحة، ومن أجوائها مسلكاً للرحلات المشبوهة، ومن صمتها غطاءا لوصمة سياسية لا تمحى.
ثم جاء البيان، محمّلاً بلغة لا تخلو من الغرور الدبلوماسي. يصف حكومة السودان بأنها “إدارة يديرها الجيش”، في محاولة استفزاز مفضوحة. فهل نسيت كينيا أن الدول تُحترم بما تمثله من شعب وإرادة وسيادة؟ وأن من يقف الآن في قلب الدولة السودانية إنما يدافع عن الخرطوم التي احترقت، وعن الجنينة التي أُبيدت، وعن مدن باتت ضحية لجرائم حرب موثقة، ارتكبتها المليشيا التي تحتفي بها نيروبي؟
يتحدثون عن السلام، وهم أول من انتهك شروطه. ويتغنون بالحوار، وهم من ينسجون المؤامرات خلف ظهر الدولة. ويرفعون شعار الإنسانية، فيما ملايين النازحين السودانيين ما زالوا ينتظرون من كينيا، لا خطاب تعزية، بل كفّ أذاها عنهم. هل نسي روتو وحكومته أن التاريخ لا يُكتب بالبيانات، بل بالدماء؟ وأن الشعوب لا تنسى من باعها في سوق المصالح بثمن بخس؟
أما الحديث عن “تهريب السلاح” و”المزاعم التي لا تدعمها الأدلة”، فهو تهكم لا يليق. فالأقمار الصناعية لا تكذب، والمراقبون الدوليون لا يتوهمون، والسجلات مفتوحة لكل من أراد أن يرى الحقيقة بلا مواربة. والحقيقة أن كينيا، في هذه الأزمة، لم تكن وسيطاً، بل طرفاً. لم تكن محايدة، بل منحازة. ولم تكن مدخلاً للحل، بل معبراً للفتنة.
قد تحاول نيروبي أن تلبس ثياب الواعظين كذلك الذئب العقور، وأن تعظ السودان صلفاً وعنجهية. لكنها تغفل أن السودان هو أحد مؤسسي الوحدة الأفريقية، وركن ثابت في معادلة القارة. السودان لا يحتاج إلى شهادة من أحد، ولا يقبل أن يُدار بالأوصياء، ولا يخضع لمن يتوهّم أن بإمكانه شراء الخرائط وتوزيع الأدوار على هواه.
من أراد الخير للسودان، فليبدأ بالاعتراف بخطيئته، لا بإخفائها خلف الحبر والورق. ومن أراد السلام، فليتوقف عن تمويل النار، واحتضان الجمر، والسير في دروب مزدوجة. أما السودان، فقد تعلّم أن يقول “لا”، ولو قالها وحده، وأن يصمد، وإن اجتمع عليه من ينهشونه من كل الجهات. هو بلد وُلد ليقاوم، لا لينحني، وإذا ظن البعض أن بإمكانهم فرض الأمر الواقع، فليعيدوا قراءة التاريخ، ولينظروا في مصائر من راهنوا على سقوط الخرطوم.. فعادوا بخيبة خفيفة، وندم ثقيل.
27/06/2025
للاطلاع على مزيد من مقالات الكاتب:
https://shorturl.at/YcqOh