عمار العركي يكتب : *بعد أن لفظت ما في جوفها من سوء… الخرطوم صالحةٌ للحياة أكثر من أي وقتٍ مضى*
عمار العركي يكتب :
*بعد أن لفظت ما في جوفها من سوء… الخرطوم صالحةٌ للحياة أكثر من أي وقتٍ مضى*
* لا تُقاس صلاحية المدن بما في شوارعها من إنارة وماء، بل بما في جوفها من صدقٍ وأمل وقدرةٍ على النهوض. الخرطوم اليوم، رغم ما لحق بها من دمار، ليست مدينة ميؤوسًا منها، بل مدينة خرجت من خداع الزينة إلى صدق الحقيقة.
* في الماضي، كانت الخرطوم تبدو جميلة في ظاهرها: مضيئة، مزدانة بالبنايات والمهرجانات والابتسامات المصطنعة. لكنها، في أعماقها، كانت مختنقة بكل ما يُنهك الأوطان، فسادٌ يأكل المال العام، حقدٌ اجتماعي موروث، رياء سياسي، قوانين مطاطة تُستخدم كأدوات إذلال، غدرٌ وخيانةٌ مستترة، واختلاس منظّم مقنّن يُدار بصمت وببطاقات هوية رسمية.
* ثم جاءت الحرب، بكل فظاعتها، فشقّت جلد المدينة وفضحت ما تحته لفظت الخرطوم ما في جوفها من سوء، وعرّت واقعها، فتطهّرت. تطهّرت من زيفٍ طويل، وسلوكٍ مشين كان يُمارس في الظلام تحت لافتة القانون أو الدين أو السلطة أو حتى المجتمع.
* صحيح أن الخرطوم اليوم متعبة، مهدّمة في ظاهرها، لكن من قال إن إعادة بناء المباني أصعب من إعادة بناء القيم الخرطوم التي استطاعت أن تُطهّر نفسها، وتُنزل نُبل المعاني من علياء الشعارات إلى واقع الفعل، وتقطع طريق السوء، وتدمّر جسور الغدر والخيانة والعمالة، لن يستعصي عليها أبدًا تعمير وصيانة المباني، وتوصيل المياه والكهرباء، ورصف طرق الخير والجمال، وبناء جسور الوطنية والقومية من جديد.
* نعم، الخرطوم تحتاج إلى جهود عظيمة، وتضحيات كبيرة، لكنها لا تحتاج إلى بكاء العاجزين، ولا إلى ترديد عبارات اليأس التي تبرر الهروب، وتُضفي المشروعية على التردد.
* الذين يشترطون الكهرباء والماء والصحة والتعليم قبل العودة، نسألهم بلطف: هل من بقوا في قلب المدينة، طوال شهور الجحيم، كانوا يملكون ذلك؟ ألم يعيشوا بلا ماء ولا كهرباء، وتحت وابل القصف والرعب؟ ألم يثبتوا أن الانتماء لا يُقاس براحة الجسد بل بصبر الروح؟
* هذه ليست دعوة إلى التهوّر، لكنها دعوة إلى المسؤولية. من لم يُغادر بيته، لم يكن أقوى منكم جسدًا، لكنه كان أصدق منكم ارتباطًا. الخرطوم لا تحتاج إلى من يشفق عليها من بعيد، بل إلى من يأتيها، يكنس ركامها، ويزرع في ترابها بداية جديدة.
* الذين يقولون إنها لم تعد صالحة للحياة،.نقول لهم: بل الآن فقط بدأت تصلح للحياة، لأنها لأول مرة صارت حقيقية. ولأنها لم تعد تخدعنا ببريقها، فهي تستحق أن نبنيها بأيدينا لا أن نتشرّط عليها من خلف الحدود.
* الخرطوم ليست “خرابة الشيطان” كما يُحب أن يصفها بعضهم، بل “طفلة نالت أول غُسلٍ حقيقي بعد سنوات من طمس الملامح وتجميل القبح”. الآن فقط… بدأت تتنفس، وتطلب أبناءها الحقيقيين. فمن يعود، يبنيها. ومن يتردد، يُسلمها للعدم.