*أمريكا تكتشف بلدًا مجهولًا اسمه السودان* بقلم السفير/ رشاد فراج الطيب
*أمريكا تكتشف بلدًا مجهولًا اسمه السودان*
بقلم السفير/ رشاد فراج الطيب

تخيّلوا أن رئيس أكبر وأقوى دولة في العالم ، الدولة التي تتدخل في كل شبر على هذا الكوكب ، وتتفاخر بأنها تعرف ما يدور في الغرف المظلمة قبل أن يعرفه أهل البيت أنفسهم يخرج على الملأ ليخبر العالم أنه لم يكن يعرف حقيقة ما يجري في السودان !
وأنه لم يسمع إلا بأنه “بلد تضربه الفوضى وبلا حكومة” ، ثم يضيف ببراءة سياسية نادرة أنه لم يدرك حقيقة الوضع إلا بعد أن أخبره الأمير محمد بن سلمان !
هكذا ببساطة اكتشفت واشنطن أن هناك بلدًا اسمه السودان مثلما اكتشف كلومبوس امريكا نفسها من قبل !
بلدٌ ظلّت الولايات المتحدة نفسها لعقود تُصنِّفه وتراقبه وتعاقبه وتُصدر بحقه القرارات الأممية ، بل وتقصفه بطائراتها وتتعقّب قادته بالعقوبات وبالمحكمة الجنائية الدولية التي لاتعترف هي بولايتها ولا بنظامها ، ثم في لحظة واحدة يصبح هذا البلد مجهولًا بالنسبة لقائد البيت الأبيض … إلى أن يظهر من “يعلمه” .
إن هذا الاعتراف ليس مجرد جملة عابرة ، بل وثيقة تثبت مقدار الجهل أو التجاهل الذي تمارسه السياسة الأمريكية تجاه السودان أحد أبرز وأهم دول القارة الافريقة حضارة وعراقة .
فالدولة التي احتلت حيزًا من سياساتها الخارجية طوال الثلاثين عامًا الماضية بما يتجاوز حصص كثير من دول العالم .
الدولة التي فرضت عليه الحصار والعقوبات والتجريم الأممي بعشرات القرارات الظالمة ، واعتبرته ضمن “محور الشر” ، وشنّت عليه غارات جوية عقب أحداث سبتمبر ، فجأة تعلن أنها لا تعرف شيئًا مما يدور فيه او عليه !
أي مفارقة هذه ؟ وأي براءة مدّعاة يمكن أن تخفي الحقيقة ؟
الحقيقة أن واشنطن لم تكن جاهلة بالسودان … بل كانت تتجاهله عامدةً ، لأنها لم تكن تراه سوى رقعة يسهل العبث فيها دون تكلفة ، عندما أرسلت والد صهر الرئيس ومستشاره المدعو مسعد بولص ليتلاعب باعدادات المشهد السوداني باسم اللجنة الرباعية وهو حديث عهد بالسياسة .
وهي أمريكا التي ساهمت في زعزعة استقراره علي مدي سنوات ، وهي التي غذّت حالة الضعف والانقسام فيه عبر أدوات الضغط والعزل وقد وثقت ذلك في مذكراتها كل من الوزيرتين الحيزبونتين الشمطاوين مادلين اولبرايت وكوندوليزا رايس الخبيرتين في الشأن السوداني .
وكل ذلك لم يكن بهدف “الديمقراطية” أو “حقوق الإنسان”، بل لتعطيل نهضة بلد يمتلك من الموارد والموقع ما يجعل منه عبئًا على حسابات الهيمنة الأمريكية في المنطقة .
واليوم ويا للسخرية، لم تستيقظ واشنطن وتنتبه على السودان لأن الدماء فيه سالت ، أو لأن المدن دُمرت ، أو لأن الملايين شردوا وانتهكت انسانيتهم من قبل مليشيا متمردة وعدوان غاشم .
لم تتحرك لأن الضمير الأمريكي استيقظ ، بل فقط لأن الأمير محمد بن سلمان مشكورا لفت انتباه الرئيس الأمريكي إلى أن هناك بلدًا عريقة وكبيرا يوشك على الانهيار الكامل ، وأن استمرار هذا الوضع لا يخدم مصالح المنطقة .
فجأة أصبح السودان يستحق اهتمامًا ، ولكن ليس لوجه الله ولا لوجه الإنسانية ، بل لاعتبارات سياسية ومكافأة استثمارية داخل معادلات العلاقة والمصالح بين واشنطن والرياض .
وفي لحظة واحدة تحولت الكارثة الإنسانية والسياسية في السودان من ملف منسي إلى ملف مهم “ يُفتح ويُغلق” وفق رغبة حليف إقليمي محترم .
وهنا يطلّ سؤال لا بد منه ،
يا ترى ، ما الذي سيُعجب الرئيس ترامب من خيرات السودان الوفيرة ليضيفها إلى قائمة “إنجازاته وهداياه ” ، أو أي نعجة سيطلب اضافتها الي نعاجه حتى يتفضل بإعطاء أوامره لحلفائه بوقف الحرب والعدوان علي السودان ؟
فالرجل سبق أن أعجب بشواطئ غزة فطلب أن تُمنح له غزة دون سكان ليقيم عليها “ريفيرا” وناطحات سحاب ومنتجعات في موقع جديد مقابل أن يدعو حليفه الإسرائيلي لوقف الابادة والتجويع .
وكان قد تلمّظ على معادن أوكرانيا ، فاشترط أن يحصل على “نصيب مفروض” منها قبل أن يمضي في خطته لفرض السلام المنقوص بينها وبين روسيا !
فهل ينتظر ترامب في السودان ذهبًا ؟ أم نفطًا ؟ أم أراضٍ زراعية ؟ أم شريطًا على البحر الأحمر ليضيفه إلى مشاريعه ؟
السؤال مطروح … والنهج الأمريكي لا يبعث على الاطمئنان لانه لايعمل لوجه الله أو الانسانية .
هذا هو المشهد كما باح به الرئيس الأمريكي نفسه ،
بلدٌ دمّرته سياسات واشنطن ، عوقب طويلاً ، وقُصف ظلمًا ، واتُّهم دون بيّنة ، ووُضع تحت عشرات القرارات الدولية ، ثم يُقال للعالم إن رئيس الولايات المتحدة لم يكن يعرف عنه شيئًا إلا عندما أخبره بذلك ولي العهد السعودي !
يا لها من شهادة… ليست على السودان ، بل على العقل الاستراتيجي الذي يدير السياسة الأمريكية .
فالسودان الذي تتعامل معه واشنطن باعتباره هامشًا هو في الحقيقة بلدٌ محوري، كان قادرا دوما على قلب موازين الإقليم والتأثير في صياغة الواقع من حوله وهم يعرفون ذلك ، لكنّ القوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة لا تريد للسودان أن يقف ويتعافي ، لأنها تدرك وزنه إن نهض ، وتخشى مكانته إن تعافى .
وهكذا نكتشف نحن ، ويكتشف العالم ، أن السودان لم يكن مجهولًا لأمريكا يومًا ،
بل كانت هي تتظاهر بأنها لا تعرفه ، حتى جاء من يذكّرها به في لحظة سياسية ملتبسة تحكمها المصالح والصفقات .
وإذا كانت هذه هي طريقة “اكتشاف” السودان اليوم ، فكيف ستنظُر إليه واشنطن غدًا ؟
ومتى تتعامل معه كدولة ذات وزن وكرامة وسيادة… لا كملف مهمل لا يُفتح إلا بضغط أو بمجاملة ؟
ذلك سؤال يبقى مفتوحًا… لكن جواب السودان يجب أن يكون واضحًا ،
نحن بلد يسد عين الشمس و يعرف قدر نفسه ، حتى لو ادّعى الآخرون أنهم لا يعرفوننا.
