د.أسامه ميرغني راشد يكتب : *عودة الروح*
د.أسامه ميرغني راشد يكتب :
*عودة الروح*
عندما أندلعت حرب السودان وأنا أسميها حرب السودان فهي أول حرب تدخل كل بيت سوداني فلم تتأثر بها أقاليم السودان التي إندلعت بها الخرطوم والجزيرة وولايات دارفور وكردفان فقط بل إنها تمددت بآثارها الصعبة لكل بقعة في السودان شمالا وجنوبا شرقا وغربا بل تأثرت بها دول الإقليم من حولنا تأثرا مباشرا بل تأثرت حتى دول المحيط العربي والإفريقي بهذه الحرب التي ولأول مرة في تاريخ السودان تدخل المعارك الي داخل بيوت المواطنين فتهجر ما يزيد عن ثمانية ملايين مواطن من مسكنه الي ولايات اخرى وبلاد أخرى ، إذن فهي حرب ضروس أكلت الأخضر واليابس وأعادت الناس الي ما قبل عصر الصناعة والإتصالات فحتى الإتصالات خربتها حرب السودان الغريبة في كل تداعياتها وآثارها المدمرة .
وعودا لبداية المقال فعندما أندلعت حرب السودان الضروس يممت وأسرتي كملايين السودانيين صوب قريتنا في شمال السودان وتقع قريتنا ومدينتها في وسط الشمال تقريبا ولكن تمتد أواصر الأهل والأسرة من جنوب الولاية الي أقصى حدودها الشمالية في وادي حلفا فحملتنا المناسبات الضرورية لزيارات ممتدة من دنقلا ومروي وكريمة وحتى وادي حلفا نتفقد الأهل والأصدقاء والجيران الذين جاءت بهم الحرب الي الولاية الشمالية .
لقد لاحظت أمرا مهما في غالب قرى الولاية الشمالية خاصة تلك التي تتمدد على ضفاف النيل أقصى الشمال والتي كنا في السابق عند المرور بها نتحسر على أنها أصبحت مهجورة وعبارة عن أطلال فأغلب القرى على ضفتي النيل هجرها أهلها وأصبح عدد السكان فيها محدودا فربما كنت تجد قرية لا يسكن بها إلا سبعة أو ثمانية عوائل لا تزيد أعدادهم مجتمعين على خمسين أو أربعين أو أقل من ذلك من الأفراد ، هذا الواقع الذي كان يحيط بالحالة السكانية بالولاية الشمالية كان واقعا مؤلما نراه دائما في رحلاتنا بين مدن الولاية الشمالية ونحن نزور الأهل والأحباب في كل ربوعها وذلك قبل إندلاع الحرب.
لكن اليوم وعلى أثر تداعيات حرب السودان التي اندلعت في عاصمة البلاد وسرعان ما تمددت غربا ووسطا بل وهددت حتى ولايات الشمال والشرق والجنوب الشرقي فإن من تداعياتها عودة الالاف من أبناء الولاية الشمالية الي مدنهم وقراهم وأريافهم التي هجرها الأباء والأجداد عادوا ينفضون الغبار عن الجدران العتيقة ويعيدون سقف الغرف والصالات بجريد النخيل وعيدانها والبعض الذي له فسحة من المال أعاد البناء بشكل جديد ومواد أكثر متانة ، وتزايد أعداد السكان من أبناء الولاية بل كثيرون من ولايات أخرى جاءوا وسكنوا مع أهل البلد في هذه المدن بل حتى في القرى والأرياف البعيدة وكثيرون جاءوا ومعهم جيرانهم وتساكنوا في هذه البقاع بكل أريحية فتعمرت المساجد وأصبحت الصلوات الراتبة يمتلئ فيه المسجد أو المسيد أم صلاة الجمعة فلا يكاد مسجد يستطيع ان يكفي أهل تلك القرية أو تلك المنطقة ، ثم ظهرت ميادين الرياضة خاصة كرة القدم والتي انتشرت في كل الميادين والتي تحولت أيضا هذه الميادين وروادها الي مجموعات شبابية تتلقى جرعات من التدريب العسكري في إطار الاستنفار الذي فرضته ضرورات الحرب والإستعداد للدفاع عن الأرض والعرض والأهل .
هولاء العائدون من أهل الولاية الشمالية والقادمون إليها من ولايات أخرى من أبناء هذا الوطن الفسيح الجريح بدأو في إعمار البيوت وتمددت بهم وبحراكهم الأسواق فأتسعت مساحة ونشاطا ودخلت الولاية ضروب تجارية جديدة ، أما في مجال الزراعة فقد رأيت تطورا نوعيا في هذا المجال ويستعد عدد من القادمين للولاية لزراعة مساحات واسعة عبر نظم الري المحوري والري المطري الصناعي ويفكر كثيرون لجعل منتجاتهم قابلة للتصدير للأسواق العالمية وأسواق الأقليم والجوار .
هذا الذي أراه كل يوم وضعنا أمام تساؤلات كثيرة ولكن أهمها لماذا أهملنا ولاياتنا لنكتشف أنها غنية وواعدة وبها فرص لا حصر لها وأكتشفنا أنه يمكننا أن نعيش هنا بهدوء وكل ما نريده من أسباب المدينة متوفر أو يمكن توفيره بسهولة .
إن ما رأيته هنا في الولاية الشمالية ما هو إلا نموذج وبالتأكيد كل ولايات السودان فيها مثل هذا وأكثر فهل يمكننا أن نستثمر محنة الحرب لنحولها الي منحة تعيدنا جميعا الي ولاياتنا لتكون كل ولاية هي مركز كامل لوحده ونعضد ذلك بقوانين الحكم الفيدرالي الحقيقي لا المكتوب في الورق والمركز هو الخرطوم فقط لماذا لا نعتبر ما حدث ليس إلا صحوة عنيفة ولكنها لعودة الروح لبلادنا برؤية جديدة .