هشام أيوب يكتب : لو لم تكن تمبول لكانت غيرها: استخدام المواطنين كسلاح ضد الدولة
هشام أيوب يكتب :
لو لم تكن تمبول لكانت غيرها: استخدام المواطنين كسلاح ضد الدولة
مليشيات الدعم السريع، كغيرها من الحركات المتمردة، تعتمد على تكتيك “الفزع” كأحد أساليبها القتالية الرئيسية. هذا التكتيك يعتمد على سحب أعداد كبيرة من القوات من مناطق انتشارها الواسع لتنفيذ هجوم سريع على منطقة محددة، ثم إعادة نشر القوات في مواقع أخرى فور تحقيق السيطرة. تكتيك الفزع يتميز بالمرونة وسرعة الحركة، ولكنه يُظهر عيوبًا كبيرة عندما يتعلق الأمر بالانتشار على مساحات جغرافية شاسعة. هذا ما تواجهه المليشيات المتمردة حاليًا في السودان.
تأثير انتشار القوات على أداء المليشيات
خلال الأشهر الماضية، بدأت تظهر تأثيرات سلبية على أداء قوات الدعم السريع بسبب انتشارها في مساحات واسعة. هذا الانتشار أضعف القدرة على الاستفادة من تكتيك “الفزع”، وذلك لعدة أسباب منها:
– بعد المسافات: تباعد مناطق السيطرة يعقد عمليات التنقل والإمداد.
– وعورة الطرق: في ظل ظروف طبيعية قاسية مثل موسم الأمطار والخريف، تصبح الطرق شبه مستحيلة، مما يعطل الحركة والإمداد.
– طول خطوط الإمداد: الامتداد الجغرافي الواسع يعني ضرورة تأمين خطوط إمداد طويلة، وهو ما يستهلك وقتًا وجهدًا ويعرض القوات لهجمات مضادة.
هذه العوامل وغيرها قللت من فعالية المليشيات وأعاقت قدرتها على الحفاظ على السيطرة في مناطق متعددة، مما دفعها للبحث عن حلول بديلة.
السعي لاستصدار قرار أممي بنشر قوات دولية
أحد الحلول التي تسعى إليها المليشيات المتمردة، بدعم من حلفائها المحليين والدوليين، هو استصدار قرار أممي يتيح نشر قوات دولية وحظر الطيران في السودان، بحجة حماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية. الهدف الحقيقي وراء هذا المسعى ليس حماية المدنيين، بل توفير درع سياسي وعسكري يضمن للمليشيات الحفاظ على المناطق التي تسيطر عليها حاليًا.
إدخال قوات أممية من شأنه إنشاء منطقة عازلة بين المناطق الخاضعة لسيطرة المليشيات وتلك التي تسيطر عليها القوات المسلحة السودانية. بهذه الطريقة، تُحمى المليشيات من الهجمات المضادة للجيش، ويتم تحييد الطيران الحربي السوداني الذي يعد أحد أبرز نقاط القوة للجيش في مواجهة المليشيات على الأرض. هذا السيناريو يخلق حالة من الجمود العسكري ويمنع أي تقدم للقوات المسلحة نحو استعادة الأراضي التي تسيطر عليها المليشيات.
الانتهاكات وارتباطها بالضغوط الدولية
منذ الشهور الأولى من الحرب، يُلاحظ أن كلما اقترب موعد جلسة لمجلس الأمن الدولي أو حدث دولي يتعلق بالشأن السوداني، ترتكب المليشيات المتمردة مجازر وانتهاكات ضد المدنيين. هذه الأحداث تتزامن مع تصاعد الدعوات عبر وسائل الإعلام للتدخل الخارجي “لحماية المدنيين” من انتهاكات “طرفي الصراع”. اللافت للنظر أن هذه الانتهاكات غالبًا ما تحدث في مناطق لا توجد بها قوات الجيش السوداني، مثل الجنينة التي حدثت فيها المجزرة الشهيرة بعد انسحاب الجيش وقرى الجزيرة مثل ود النورة وقرى سنار والعديد من المناطق التي لا يوجد بها قواعد أو حاميات عسكرية، وهي مناطق إما انسحب منها الجيش أو لم يكن له وجود فيها من الأساس. كما تتكرر أحداث الحصار وقطع الإمدادات الغذائية والإنسانية عن مناطق ومعسكرات النازحين بواسطة المليشيات، ثم الترويج لمعاناة الأبرياء من المجاعة بسبب “طرفي الصراع”.
الهدف من هذه التحركات
هذه التحركات تهدف إلى تهيئة الرأي العام الدولي لدعم تدخل أممي تحت ذريعة حماية المدنيين، رغم أن الانتهاكات تُرتكب غالبًا بواسطة المليشيات نفسها. الهدف الحقيقي هو فرض قوات دولية على السودان لحماية المليشيات من أي محاولات عسكرية لتحرير الأراضي التي تسيطر عليها، وبالتالي إجبار الحكومة السودانية على الرضوخ لشروط التفاوض التي تفرضها المليشيات، والتي ستكون مدعومة بغطاء دولي.
شرق الجزيرة: حلقة جديدة في مسلسل الانتهاكات
الانتهاكات التي تحدث حاليًا في مدن وقرى شرق الجزيرة تُظهر نفس النمط. ورغم أن الهجمات تبدو انتقامًا من الأهالي بعد استسلام كيكل للجيش، إلا أن التوقيت والمكان يشيران إلى هدف أكبر. هذه الانتهاكات تأتي قبل أيام معدودة من تقرير مرتقب من الأمين العام للأمم المتحدة حول توصيات بعثة تقصي الحقائق، والتي أوصت بإرسال قوات دولية إلى السودان تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. هذا التقرير من المقرر صدوره غدًا، 28 أكتوبر.
التسريبات: لا توصية بالتدخل الأممي
ولكن تسريبات حديثة تشير إلى أن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة المقرر صدوره غدًا، قد لا يحمل توصية بتدخل أممي مباشر، حيث تم تقييم أن الوضع في السودان غير مناسب لمثل هذا التدخل حاليًا. لكن ذلك لا ينفي أن المليشيات ستستمر في استخدام هذه التكتيكات للضغط على المجتمع الدولي بحثًا عن أي دعم أو حماية دولية في المستقبل.
ما يحدث في شرق الجزيرة لم يكن ليختلف لو لم يستسلم كيكل في هذا التوقيت. لو لم تكن السريحة وتمبول وقرى شرق الجزيرة، لكانت المجازر ستحدث في أي منطقة أخرى. الهدف الاستراتيجي واضح: الضغط على المجتمع الدولي لاتخاذ قرارات تضمن بقاء المليشيات في مواقعها الحالية وتحول دون أي محاولة من الجيش السوداني لاستعادة الأراضي. القوات الدولية، إن تم نشرها، لن تكون لحماية المدنيين، بل لحماية المليشيات وضمان بقائها قوة سياسية وعسكرية لا يمكن تجاهلها في مستقبل السودان.
الخلاصة: الانتهاكات كأداة لتحقيق الأهداف السياسية
ما يحدث في السودان ليس جديدًا. استخدام المليشيات للمدنيين كوسيلة للضغط على المجتمع الدولي هو جزء من استراتيجية أكبر تهدف إلى فرض وقائع جديدة على الأرض. كلما اقترب السودان من نيل الدعم الدولي في مواجهته ضد المتمردين، ارتفعت وتيرة الانتهاكات وارتفعت معها الأصوات التي تطالب بالتدخل الدولي.
في النهاية، المليشيات تسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية عبر الوسائل العسكرية والإعلامية، وحتى عبر استغلال المعاناة الإنسانية. أي تدخل أممي، إذا لم يكن مدروسًا ومحايدًا، سيتحول إلى أداة تُستخدم لتعزيز سيطرة المليشيات وإضعاف الدولة السودانية.
الحل الوحيد في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها السودان هو تضافر كل الجهود لتحييد هذه الميليشيات وحماية كيان الدولة، فبدون وجود وطن مستقر لن تكون هناك أي فرصة للنقاش حول الخلافات السياسية التي لن تنتهي بطبيعتها. الحفاظ على وحدة السودان وضمان بقاء الدولة هو الأولوية القصوى الآن. بمجرد تحقيق الاستقرار وتحييد الميليشيات، يمكننا أن نعود إلى طاولة الحوار السياسي لحل خلافاتنا عبر الوسائل السلمية والديمقراطية. إذا لم نتحرك الآن لحماية الوطن، فقد لا يبقى هناك وطن نختلف فيه.
هشام أيوب