عبد الحي الترابي يكتب : فتبينوا
عبد الحي الترابي يكتب :
فتبينوا
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)سورة الحجرات
فَاسِقٌ}: الفاسق: الخارج من حدود الشرع، والفسقُ في أصل الاشتقاق موضوع لما يدل على معنى (الخروج) مأخوذ من قولهم: فسقت الرُطبةُ إذا خرجت من قشرها، وسمّي الفاسق فاسقاً لانسلاخه عن الخير.
وفي اللسان: الفسق: العصيان والترك لأمر الله عز وجل، والخروج عن طريق الحق، ومنه قوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] أي خرج من طاعة ربه، والفواسق من النساء: الفواجر قال الشاعر:
فواسقاً من أمره جوائراً
قال الراغب: والفسق أعم من الكفر، لأنه يقع بالقليل والكثير من الذنوب، ولكن تعورف فيما كان بالكثير، وأكثر ما يقال لمن كان مؤمناً ثم أخلّ بجميع الأحكام أو ببعضها.
{بِنَبَإٍ}: النبأ في اللغة: الخبر، والجمع أنباء كذا في (القاموس) و(اللسان)، ويرى بعض اللغويين أنه لا يقال للخبر: نبأ حتى يكون هامّاً، ذا فائدة عظيمة، فكل خبر هام يسمّى (نبأ) قال تعالى: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67- 68] وأمّا إذا لم يكن هاماً فلا يقال له نبأ.
قال الراغب: لا يقال للخبر في الأصل (نبأ) حتى يكون ذا فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن.
{فتبينوا}: التبيّن: طلب البيان والتعرّف، وقريب من التثبت، والمراد به هنا التحقق والتثبت من الخبر حتى يكون الإنسان على بصيرة من أمره.
ومعنى الآية الكريمة: إن جاءكم فاسق بنبأ عظيم له نتائج خطيرة، فلا تقبلوا قوله حتى تتثبّتوا وتتحققوا من صدقه، لتأمنوا العاقبة.
{بجهالة}: أي جاهلين حالهم، أو تصيبوهم بسبب جهالتكم أمرهم.
{نادمين}: الندم: الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه، يقال: ندم على الشيء، وندم على ما فعل ندماً وندامة، وتندّم أسِف، كذا في (اللسان).
والمراد بالندم: الهمّ الدائم
ذلك خلق أمر به الله جل وعلا هو التثبت من الأخبار والتأني حتى الاستيثاق من ذلك النبأ وقد سن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في خبر الوليد بن عقبة ابي معيط رضي الله عنه في حادثة جمع الصدقات ان تحري وتثبت ونزلت الآيات تذكيرا بذلك فنحن ملزمون بذلك، حتى لا يترتب على ذلك ضرر
ولعل في قصص القرآن ما يشير إلى هذه المنهجية في قصة خبر الهدد و سيدناسليمان عليه السلام وتثبته من خبر الهدهد:
قال تعالى في قصة سليمان مع الهدهد: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 20- 27]. سنبحث في الأمر لعلك تكون قد كذبت، أو أخطأت، أو وهمت، لعل في الأمر التباسا وغموضا = ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]. ويا ليت الناس اتخذوا هذا شعارا لهم، كلما جاءنا رجل يقول: فلان قال، وفلان فعل، وفلان متهم، وفلانة وقع لها كذا وكذا لو أجبنا كل واحد يسعى بين الناس بالقيل والقال بهذه الكلمة، سننظر، سنبحث، سنتأكد ﴿ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ لو اتخذنا هذا شعارا لنا في الحياة، لقطعنا الطريق على أصحاب النميمة والوشايات الكاذبة الذين يسعون بين الناس بالفساد والإفساد، ولانتهت أكثر الخصومات والنزاعات بين الناس، لأن معظم النزاعات والخصومات التي تقع بين الناس مبنية على إشاعات
تتناقلها الألسن دون تثبت ولا تبين، فتَنتُج عنها الكراهية والقطيعة والخصومات…)
ونحن في عصر تفشي الأخبار وسرعة انتشار يكاد يفوق القياس
أين نقف من منهجية التحري والتثبت
يقصد بالتثبت هو التحري والتأكد صحة الخبر قبل قبوله أو نشره
قبول الخبر يترتب عليه فعل أو ترك لذلك على السامع أن يتريث ويتمهل حتى يتثبت كما فعل سيدنا سليمان عليه السلام
ولخطر الأمر كان من سنته صلى الله عليه وسلم ان أرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه تثبتاً و تقصياً لأمر بديلاً للوليد بن عقية وقد سبق ذكر ذلك
بل ان في التسرع مذمة أشار إليها صلى الله عليه وسلم فالعجلة في التعامل مع الخبر قد توقع فيما لايحمد
كذلك فعل صلى الله عليه وسلم في سماع خبر خيانة بني قريظة للعهد ايام الخندق
انه ارسله مستقصياً الحقيقة عن النبأ بل ان حقيقة الخبر تحجب احيانا عن العامة كما فعل صلى الله عليه وسلم فليس كل ما يعرف يقال
كما أنه ليس كل مسموع حقيقة كذلك و يكفي في ذلك ما قاله رسول الله ﷺ : ( كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع ) رواه مسلم
و الأناءة محمودة، وفيها السلامة، و التثبت لا يستطيعه الا أصحاب العقل والرزانة وإنما التعجل في إطلاق الاخبار صفةأهل الحمق الذي لا دواء له
فقد يزهق الخبر الكاذب ارواحاً أو يهلك مالاً لذلك سنت قوانين النشر لذلك حافظا على حقوق الآخرين
ولأجل أن نمكن القرأ ان ينتبهوا لذلك فعالم اليوم فشى فيه ذلك المرض وأصحاب الغرض كثر لا تكاد تحصهم، ونحن في عالم الصحافة والإعلام والقراءة والأنباء يجب أن نأخذ الأمر بحزم وتثبت فكثيرا من الاراء تنبني عليها مواقف وتصرفات وقد تؤدي إلى فتن تفضي الي عقابيل لا يمكن تداركها، ولنا في قصة الهدد عبرة وموعظة، انظر كيف كان موقف سيدنا سليمان عليه السلام،من خبر الهدد عن بلقيس وقومها عند سماع النبأ الذي سماه الهدد يقين وكيف كان التثبت والتحقق ثم إصدار الحكم والتدرج في ذلك عند تيقنه من صدقية الخبر
وكذلك الأمر الذي ألزمنا به الله في محكم تنزيله عند سماع النبأ المتناقل عن نقلته
أن نتبين حتى لا ينتهي بنا الحكم الذي نصدره ان نصيب أبرياء جهالة منا بحقيقة النباء و مصداقية الناقل هذا أن كنا في زمرة أهل الإيمان الاتقياء الملتزمين فهم أولى الناس بذلك
أليس في ذلك حفظ لتماسك المجتمع وحفظ الأرواح وصيانة للأعراض والأموال وحماية للقيم
أليس يوجب علينا أن نقرأ ونسمع ونحقق ونتحقق ثم نحدد موقفنا من السماع والقراءة بمنهجية المقاصد الكلية للعلم والمعرفة لأي نص أو خطاب
مالذي يتطلبه ذلك الخطاب أو النص أليس الاستماع الجيد أو استنطاق المقروء وفهمه حسب السياق اللغوي الذي ورد فيه
من إشارات وإحالات وما استخدم من أدوات الربط
ثم المقام الذي قيل فيه والحال الزماني والمعرض وملابساته التي احاطت به، حتى نصل إلى الفهم الصحيح بكل ضوابطه
لنقف على حقائقه وإزالة عوائق الفهم السليم وإلا كان الخطأ حاتماً وكائناً ويأتي التأويل سقيماً معلولاً
إن سبر اغوار الكتابه واستكنا حقائق الخطاب كذلك يحتاج لذلك فالتعجل في الحكم على اي مقال أو خطاب دون امتلاك أدوات فهم المقصد ودلالة اللغة يوقعنا يورطنا في أحاكم خاطئة
كذلك أولى ان نقيس على ذلك لمقصود فهم الكلام في كافة الصعد سياسية كانت أو فكرية… افنحن نعيش أزمة تفسيرات الإعلاميين لأحاديث القادة مثلاً
والجدل في الوسائط المتعددة من مناكفات تخدم أغراض الأعداء وللحرب وجوه متعددة
فعالم اليوم تحكمه قيم لاتعترف الا بتحقيق المصالح مهما كان الثمن ووقعه على الآخر فكيف نحرس مجتمعنا من التفكك ونحن أحوج ما نكون الي التماسك والتعاضد لخوض معركة صد العدوان اولاً ثم الإعمار والبناء
إن أمة يغفل بنوها عن الأخذ بأسباب النهضة والتسلح بالعلم والمعرفة لن تقم لها قائمة وستظل في هامش التاريخ وتصير بلادها صيدا سهلا لسهام الاعداء الطامعين
انظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي فإنها تعج بالإشاعاتُ الكاذبة، والأخبار الباطلة، التي تجعل الناس يعيشون نوعًا من القلق والاضطراب، أو الترقب والانتظار.
ومِن بلايا شبكات التواصل الجرأةُ في النشر للأخبار الخاطئة، لاغراض تحقيق السبق الإعلامي والانفراد بالخبر
كذلك نشر الأقوال الشاذة في المسائل العلمية ، دون بحث ونظر، أو دراسة ودراية وعدم الرجوع إلى العلماء والمختصين.
فإن كانت آفة الأخبار قديماً هم بحسب قول الشاعر:
هم نقلوا عنّي الذي لم أَفُه به * وما آفَةُ الأَخبار إلا رُواتُها
فإن آفتها الآن رواتها ومحللوها ومن يضيفوا ويحذفوا
يقال ان ابن هارون الرشيد قال له يا ابتي حدثني الثقة كيت وكيت فقال له هارون يا بني الثقة لا ينقل
يتصل