تيسير محمد حسين تكتب : *الطيب صالح … أفق الاصل*
تيسير محمد حسين تكتب :
*الطيب صالح … أفق الاصل*
الأديبُ السُّودانيُّ الطيبُ صالح،
ورغمَ الحديثِ بأنَّ التَّرحالَ كانَ أفقَ الأصلِ عنده،
إلَّا أنَّ هذا الأصلَ — كرمكول — كانَ ينثالُ من عُمقِ مدادِه، أينما وكيفما نزف…
وقد كانَ كما قالَ سيد أحمد الحردلو:
“ينكبُّ على الورق، فينزفُ لغةً أُخرى، وبشرًا مختلفين…
يأتونَ من حيثُ لا ندري،
ويذهبونَ من حيثُ لا نعلم…
إنهم يأتونَ من الأحلام.
بعضُهم يشنُّونَ حربَ غوريلا ضدَّ حضارةِ أوروبا،
وبعضُهم يخرجونَ من مجاهلِ آسيا، وكأنَّهم من بقايا المغول،
ثمَّ ينتهونَ إلى أعماقِ نهرِ النيل.”
حينَ دخلتُ من بابِ بيتِ الطيب صالح في كرمكول،
كنتُ أُديرُ النَّظرَ في ذلك الحوش، بحثًا عن تلكَ النخلةِ المُلهِمة، بأهميَّةِ الأصل.
وأُحاولُ استنشاقَ الهواء، علَّني أشتمُّ رائحةَ التمرِ، والبصلِ، والحلبةِ،
والبخورِ الّذي يعبقُ دومًا في مبخرِ الفخارِ الكبير، كما وصفهُ الطيبُ صالح…
وقفتُ عند ذلكَ الرُّكن، وكأنَّني أرى جدَّهُ، ومِسبحةَ الصندلِ في يده،
التي شبَّه حبّاتِها بـ(قواديس السَّاقية).
وقفزتْ إلى مُخيّلتي مشاهدُ عدّة، رأيتُها في رواياتِه،
وحاولتُ أن أبحثَ عنها هنا، فلم أجدْ غيرَ حقيبةٍ بها مجموعةٌ من الكتبِ باللغةِ الإنجليزية،
وآنِيَةٍ من الفخار، تُغازلُها خُيوطُ الشمسِ الداخلةُ من فتحةٍ في سقفِ البيت،
وكأنَّها تُجدِّدُ الوعدَ لذلكَ المكان:
بأنَّهُ سيبقى موجودًا في كلِّ الأزمنة، في عُمقِ الأرض، والفكر، والأدب، في كلِّ العالم.
ولن ينسى النَّاسُ هذا العطرَ المنثور…
فقد كان كما قالَ د. عبد الواحد عبد الله يوسف عن ذاكَ العطرِ المنثور:
مغزولًا بخيوطٍ من نور،
معجونًا بمدائحِ أهلِ الله، وأنغامِ الطُّمبور،
مشحونًا بتراتيلِ الحلاّج،
وأنفاسِ ابنِ عربي،
وعبيرِ الطبقات…
هذا الإرثُ الرائعُ باقٍ، ما بقيتْ في الكونِ شمسٌ تسطع،
أو نجمٌ يطلع،
أو صلواتٌ تُرفع،
أو أذانٌ يُسمع…
وستبقى ذِكرَاك هنا يا مريود،
نورًا يهدي عُشّاقَك في كلِّ زمان.
#أسفار
#تيسيرمحمدحسين