*نظامنا السياسي ما بعد الحرب.. من بخارِ أسئلة الجذور الإجتماعية أم إرتكاساًِ للمركزية السياسية التي أودت ببلادنا إلى الحرب!!؟ .(١-٣)* ✒️ صهيب حامد
*نظامنا السياسي ما بعد الحرب.. من بخارِ أسئلة الجذور الإجتماعية أم إرتكاساًِ للمركزية السياسية التي أودت ببلادنا إلى الحرب!!؟ .(١-٣)*
✒️ صهيب حامد

هذه الأفكار هي توسيع لنقاش دار في مجموعتنا الإسفيرية نحن ثلة من طلاب جامعة الخرطوم في حقبة تسعينات القرن الماضي في نقاشٍ إستفاض حول تجربة (تحالف كردفان الكبرى) وما إذا بالمكنة إستخلاص نظام سياسي وطني من بخار جذور مكوناتنا الإجتماعية ، أم أنّ الصوابية الوحيدة في بناء الأنظمة السياسية الوطنية تنبني على المركزية السياسية أو إستراتيجية من فوق لتحت (Up-bottom) وليس من تحت لفوق (Bottom-up). بالطبع هذا النقاش هو فرع من الفلسفة السياسية التي دفعت الكثير من الأمم إستحقاقه قديماً جداً وبَنَتْ أنظمتها السياسية مذّاك كقاعدة نهوض وتقدم ، بيد أن أمماً أخرى (منها بلادنا) لم تزل تتخبط في وحل الإجابة على مثل هذه الأسئلة بلا طائل إلى يوم الناسِ هذا هائمة في ظلامات عصورها الوسطى ولِرُقي وتقدم الأمم الأخرى هم ناظرون!!.
فثمةَ خياران.. صناعة مركز سياسي عبر الإجابة على الأسئلة (الهامشية) بعكس تجربة مؤتمر الخريجين (تأسّس ١٩٣٨م) التي صنعت قواعد لمراكز سياسية غير مستوحاة من أسئلة الجذور المجتمعية وأصحاب المصلحة. لقد لبّت المركزيات السياسية في تاريخ السودان الحديث إمّا إحتياجات الطائفية والبيوتات التي تقودها (عبد الرحمن المهدي ، على الميرغني هلمّجرا) أو كسر رقبة واقعنا للإجابة عن أسئلة (مستوردة) غير مستوحاة من عمق قضايانا بقدر إستلهامها من تجارب مصرية (الإخوان المسلمون) أو روسية (الحزب الشيوعي) أو عراقية (البعث) أو ليبية (اللجان الثورية) وغير ذلك كثير. ولا ينتابني شك أن ثمة توجس من إستخلاص قواعد نظام سياسي ما من جذور التكوينات الإجتماعية وأصحاب المصلحة مخافة أن تأخذ هذه التجربة معها أمراض تلك البيئات مثل القبلية والجهوية وغيرها وهذا بالطبع تحدي يجب التعامل معه بحذر وفطنة لفرز الغث
من الثمين ، ولكن من يدٍ أليس تجربة المركزيات السياسية المستوردة قد نقلت معها أمراض أكثر خطورة من سياقات حضارية ثقافية وإجتماعية من بيئات أخرى!؟. فلقد مكث فينا الحزب الشيوعي السوداني ردحاً من الزمان محاولأً الإجابة على أسئلة الماركسية الألمانية (البروليتاريا الرثّة والبروليتاريا العصرية وغيرها) في مجتمع لم يخرج من نمط الإنتاج الخراجي (أو الأسيوي) وهي أسئلة رغم لا علائقيتها (Being irrelevant) بسياقنا الحضاري الثقافي التاريخي الإجتماعي ولكنها ألهمت ثلة من الرفاق (ممن يلبسون معاطفهم في الخرطوم حين تسقط الثلوج في موسكو!!) تدبير عدة (إنقلابات) بهدف تطبيق تلك الصيغ مضيِّعين في الأسى سنيناً من عمر بلادنا!!!.
ولكن هذه المناظرة (التنظيم العضوي/الفوقية والمركزية السياسية) هي ليست ثنائية جديدة في تاريخ بلادنا الحديث ، فلقد دارت هذه المناظرة إبتداءاً داخل (جمعية الموردة) في بدايات ثلاثينيات القرن المنصرم بين عضوين أساسيين من طلائع المثقفين السودانيين أنذاك وهما الأستاذ/محمد أحمد محجوب وزميله في الجمعية محمد عشري الصديق (شارك فيما بعد إلى جانبه في المناظرة شقيقه عبد الله عشري الصديق) وهي مناظرة دارت رحاها بين دفّتي مجلة (الفجر) حول ما يجب أن يكون عليه (الادب الوطني) ، فبينما شدّد محمد عشري الصديق على أهمية معرفة الخصائص الإجتماعية للجماعات الوطنية (متأثراً بأصوله الأفريقية) كان محمد أحمد محجوب يؤكد على عروبية (الأدب الوطني) الصراع الذي أدّى لتشظّي (جمعية الموردة) وتأسيس جمعية الهاشماب (بعض المؤرخين يسمونها مدرسة الفجر) بعد طرد الإخوة عشري الصديق على خلفية هذا الخلاف ويمكن التعمق في خلفيات هذا الصراع في كتاب (الأفندية ومفهوم القومية في السودان) لدكتور خالد حسين الكد. يعتقد البعض أنه كان للإدارة البريطانية في السودان دور في تأجيج الصراع آنف الذكر ، فلقد كان الإنجليز بعد ثورة ١٩٢٤م بقيادة البطل على عبد اللطيف لا يثقون في المثقفين السودانيين من أصول أفريقية لإنحياز هؤلاء الأخيرين لغرماء الإنجليز (المصريين) الذين دعموا (اللواء الأبيض) في هذه الثورة ، لذا يعتقد على نطاق واسع أن حضور موظف قلم المخابرات اللبناني إدوارد عطية بعض إجتماعات (جمعية الموردة) كان هدفه إستبعاد الإخوة (عشري الصديق) مخافة المؤثرات المصرية على طليعة المثقفين السودانيين أنذاك!!.
ثمة معضلة ماحقة تعيشها النخب السودانية اليوم تُعدُّ السبب الأساسي لإندلاع الحرب الدائرة ببلادنا اليوم وهي غياب الكليات الفكرية التي تمكننا من إمتلاك الأدوات التحليلية والمنهجية لنقد تجربتنا السابقة سياسياً وإجتماعياً دع أن نقدِّم إي إجتهادات جديدة تملأ الساحة الفكرية والسياسية السودانية وتقدّم أطروحات كان بدورها الاسهام في عدم إندلاع الحرب ، أو حتى بعد إندلاعها كان يمكن أن تسهم في وقفها أو حسمها ومن ثم إجتراح رؤية السلام . فبالف ولام العهد تفتقر الساحة السودانية اليوم الرافعات الفكرية المؤهلة القادرة على تقديم رؤى تخلق الإختراق المطلوب.. مثلاً فلقد إستطاع عبد الخالق محجوب تجديد الحركة اليسارية السودانية في ستينات القرن الماضي عبر إضفاء لمسة سودانية على المشروع الماركسي في السودان ولكن كل ذلك ارتكس على صخرة أحداث يوليو ١٩٧١م. نفس المحاولة قادها د. حسن الترابي إنطلاقاً من نهاية سبعينات القرن المنصرم لتجديد الحركة الإسلامية السودانية وقطعها من مؤثرات (الإخوان المسلمين) بمصر في محاولة منه بموهبة لا تني للإقتراب من شفرة الجماهير ولكن كذلك إرتكست كل التجربة بعد المفاصلة التي حدثت للرجل مع تلامذته لتمر كل التجربة فيما بعد بإنكسارات متعددة لا يريد الإسلاميون السودانيون الاعتراف بها إلى سقوطهم في نهاية طاشرات الألفية الثالثة. للمفارقة أن مفاصلة الإسلاميين السودانيين تحاكي مفاصلة إسلاميين آخرين ، فلقد فَاصَل السياسي الإسلامي التركي طيب رجب أردوغان معلمه بروفسير نجم الدين أركان مؤسس الإسلام السياسي في تركيا بلا منازع منذ ستينات القرن الماضي (حزب السلامة) ولكن محصلة هذه المفاصلة رغم خروج أربكان قد أكسبت الساحة السياسية التركية زخماً وحيوية وصارت رافعة للدولة التركية بأجمعها حيث استطاع أردوغان قيادة الإقتصاد والمجتمع التركي لحجز مقعد متقدم وضع تركيا في مصاف دول العالم الأكثر إزدهاراً إقتصادياً بناتج محلي إجمالي تجاوز الترليون دولار ، حيث يبدو أن هذا النجاح يجد جذوره في ديناميكية التجربة الاجتماعية والحضارية للدولة والمجتمع التركي بمعزل عن الهوية السياسية والآيديولوجية للمتفاصلين..نواصل.
