*أوقفوا النشر.. الفساد السوداني يتحول إلى “تابلويد” قبل أن يصل إلى القضاء* بقلم/ د/ محد الخاتم تميم
*أوقفوا النشر.. الفساد السوداني يتحول إلى “تابلويد” قبل أن يصل إلى القضاء*
بقلم/ د/ محد الخاتم تميم

مقدمة: “حرامية بيكسروا في بعض”.. عندما تُصبح العدالة مادة للتسلية
في السودان الذي يئن تحت وطأة الحرب، أصبح الفساد ظاهرة لا تُكتشف عبر الأجهزة الرقابية، بل تُفجّرها صراعات النفوذ الداخلية وتصفية الحسابات. لقد تحولت قضايا المال العام من تحقيقات جادة إلى ما يشبه “صحافة التابلويد”، حيث تنتقل القصة من غرفة الخصومة إلى غرفة التحرير، قبل أن تستقر أوراقها في محكمة حيادية. وذلك لأن الصحافة التقليدية المكتوبة قد تراجعت، ليحل محلها “مدونون/صحفيون مشهورون” على منصات التواصل، يتنافسون على “السبق الصحفي” و”الأسرار” بدلاً من التحقيق الرصين.
النتيجة ليست محاسبة الفاسد، بل فقدان هيبة المؤسسات، وتأكيد الإحساس العميق لدى الشارع بأن الدولة لم تعد تُدار بالقانون، بل بـ “النفوذ التلفوني” وبـ “عصابة فوق كل الوزارات”، كما وصفها البعض في تعليقاتهم.

سلطة الطيران المدني.. خريطة طريق لفشل المؤسسات
تُعد الأزمة الأخيرة في سلطة الطيران المدني خريطة طريق متكاملة لفشل المنظومة الرقابية. فبدلاً من أن نرى تفعيل هيئة مكافحة الثراء الحرام، رأينا صراعاً ثلاثي الأبعاد تُديره أقلام متباينة، كل منها يُمثل فصيلاً متصارعاً داخل المؤسسة:
1. صراع النفوذ الشخصي (الحرب بالوكالة):
القضية بدأت بمحاولة مدير عام جديد إيقاف نفوذ “سكرتيرة” كانت تجمع صلاحيات واسعة بشكل غير مؤسسي. لكن الرد لم يأتِ عبر قنوات إدارية، بل عبر استخدام النفوذ الأعلى (مدير مكتب رئيس مجلس السيادة)، مما أدى إلى إقالته وتوجيه تقرير مراجعة جزئي إلى جهة غير مختصة، وصدرت أوامر حظر سفر “تلفونية” ألغت قرار لجنة تحقيق رسمية ضخمة برّأت المدير. وبينما تُدافع الكاتبة رشان أوشي عن المدير المقال، يُمثل المدون عبد الماجد عبد الحميد الرواية المضادة المدعومة من فصيل السكرتيرة، محولين بذلك صراع المكاتب إلى “حرب بالوكالة” في السوشيال ميديا.
الرسالة الواضحة هنا: في السودان، قد تكون القوانين في صفك، لكن النفوذ فوق الجميع، والوظائف الإدارية البسيطة يمكن أن تُصبح سلطة تنفيذية خطيرة ما دامت تحظى بـ “دعم من الأعلى”.

2. صراع المال والسيادة: (قضية عبور الأجواء وطيران الإمارات)
تتداخل القصة الشخصية مع صراع على مليارات العائدات، حيث كشفت الرواية الأخرى عن محاولات لاسترداد حقوق السودان في إدارة المجال الجوي المشترك مع جنوب السودان (HsssFIR) بعد اتفاقات سابقة “غير رسمية” اتهم المدير السابق بتسهيلها. وقد تجسد هذا الصراع بطلب رسمي من طيران الإمارات لعبور الأجواء عبر السودان.
الرسالة الواضحة هنا: الصراع على الفساد ليس صراعاً على كراسي الإدارة فحسب، بل على تنازلات سيادية ومالية ضخمة لم تتأثر بها الخزينة فحسب، بل و الكرامة الوطنية، مما دفع الجمهور للسخرية من أنهم “أصبحوا كعوكات” (حشرات بلا قيمة) أمام الاستباحة الخارجية لأجواء بلادهم.
3. صراع الخارج بالداخل: (العداء الوطني)
لم يغب البعد الجيوسياسي عن التعليقات. لقد قرأ الشارع طلب طيران الإمارات لعبور الأجواء على أنه جزء من صراع وطني أوسع، حيث رُبطت الإمارات مباشرة بدعم التمرد. هذا التداخل خطير، فهو يعني أن أي قرار إداري أو فني حول مسار طائرة يُنظر إليه من قبل الجمهور على أنه “ولاء للخارج” أو “خيانة وطنية”، مما يضع المدراء في موقف لا يُحسدون عليه بين استرداد حق بلادهم وبين توجيه التهمة إليهم بالعمالة.

التداعيات الكارثية: شلل الثقة
إن الإفراط في تحويل الفساد إلى مادة صحفية ساخنة – سواء كان ذلك بقصد الإصلاح أو الانتقام – يخدم هدماً ممنهجاً:
• فقدان معيار الحقيقة: الجمهور لا يستطيع التمييز بين المدير المصلح والمدير الفاسد، وبين السكرتيرة البريئة وذات النفوذ، لأن كل طرف يُقدم مستندات وأدلة على قضيته، فتضيع الحقيقة ويضيع الحق العام.

• عزل القضاء: عندما يتبنى القضاء قراراً، يرفضه الشارع مسبقاً لأنه يرى أن “عصابة النفوذ” هي التي أصدرته فعلياً. وهذا يُشعر المدير المظلوم بأن القضاء والمؤسسات لم تعد مأوى له، فيلجأ مجبراً إلى “الصحافة أولاً”.
حلول مؤسسية: العودة إلى “القضاء أولاً”
إن إنهاء ثقافة “التابلويد” في معالجة الفساد يتطلب نقلة نوعية من التركيز على الأفراد (السكرتيرة، المدير، اللواء) إلى التركيز على النظام المؤسسي.

1. تحييد القضاء والرقابة: يجب ضمان الاستقلالية المطلقة للنائب العام وديوان المراجع العام وهيئة مكافحة الثراء، وتفعيل القوانين التي تمنع أي جهة تنفيذية (مهما علا شأنها) من إصدار أوامر حظر السفر أو الإقالة إلا عبر قنواتها القانونية. يجب أن تصدر أوامر الحظر بقرار واضح المصدر والتهمة، لا بـ “أمر تلفوني”.
2. الإصلاح الهيكلي (الهيومن ريسورسز): على الدولة أن تستجيب للنقد الذي وجهه الجمهور للصحافة نفسها، بالتحول إلى الإصلاح الهيكلي. يجب تطبيق نظام توصيف وظيفي واضح (Job Classification) في جميع المؤسسات السيادية، بحيث لا يمكن لسكرتيرة أن تجمع صلاحيات تنفيذية ومالية، مما يقطع الطريق على أي استخدام مستقبلي للمحسوبية والنفوذ.

3. صحافة التحقيق الموضوعية: يجب على الصحافة السودانية أن تتجاوز دور “الفاضح الهتافي” إلى دور “المراقب والمحاسب”. عليها أن تركز على متابعة مسار المستندات في أروقة القضاء والتحقيق، ونقد الثغرات القانونية والمؤسسية التي تسمح بالفساد، بدلاً من الانزلاق إلى تفاصيل “الخلافات الشخصية” و “حروب الوكالة الصحفية”.
إن الفساد في السودان مرض مزمن لا يُعالج بالصراخ الصحفي، بل بالجراحة القانونية الدقيقة. متى ما أصبح المواطن واثقاً أن “العدالة أولاً”، حينها فقط سيتمكن السودان من استرداد حقوقه في الأجواء وميزانياته، واسترداد ثقة شعبه في مؤسساته.
محمد الخاتم تميم
درهام 23 اكتوبر 2025
#الفساد_مؤسسات_لا_أفراد#https://www.facebook.com/share/p/17SoCWhuLb/?mibextid=wwXIfr
