خبر وتحليل : عمار العركي *قـراءة فـي زيـارة أفـورقـي:* *من بيده القرار الإستراتيجي؟ ومن يُكمل المسار التنفيذي ؟*
خبر وتحليل : عمار العركي
*قـراءة فـي زيـارة أفـورقـي:*
*من بيده القرار الإستراتيجي؟ ومن يُكمل المسار التنفيذي ؟*

▪️تبدو العلاقات السودانية– الإريترية اليوم وكأنها تقف على العتبة الأخيرة قبل الانتقال إلى مرحلة جديدة تماماً، مرحلة تتجاوز إطار الجوار التقليدي إلى آفاق التكامل الأمني والسياسي والشراكة الاستراتيجية. غير أنّ هذا الانتقال- على ضرورته وإلحاحه – لا يزال مرهوناً بحالة التردد والتقاطعات داخل الخرطوم، وغياب الرؤية الموحدة والغموض في إدارة أحد أكثر ملفات الجوار وضوحاً من حيث معادلات الأمن القومي. وهنا المفارقة: فبينما تتضح الحاجة الواقعية إلى قرار استراتيجي كبير، تستمر الإدارة المجزأة التي تُبقي الملف معلّقاً بين مبادرات لا تكتمل وزيارات تُعلن ولا تُنفّذ.
▪️في هذا السياق جاءت زيارة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى بورتسودان، وهي الزيارة الثالثة خلال أقل من شهرين، لكنها الأهم لأنها تمثل حضور رأس الدولة الإريترية نفسه، بعد زيارة رئيس الوزراء السوداني ثم نائب رئيس مجلس السيادة. هذا التتابع الزمني وحده يشير إلى أن أسمرا تراقب المشهد السوداني عن قرب، وترى أن لحظة إعادة ترتيب العلاقات قد حانت، خصوصاً مع تسارع المتغيرات في شرق السودان والبحر الأحمر والقرن الإفريقي، وتزايد أثر الحرب السودانية على محيطها الحيوي.
▪️ومع ذلك، فإن قراءة البيان الرسمي للزيارة تكشف أن المسار ما يزال يعاني من الفراغ ذاته الذي ظهر بعد زيارتَي كامل إدريس ومالك عقار. المخرجات جاءت عامة وتقليدية إلى حد التطابق: “علاقات تاريخية”، “تعزيز التعاون”، “تنسيق إقليمي”، مع تجاهل تام للملفات التي فُتحت سابقاً، أو للنتائج التي كان يُفترض أن تبدأ مع زيارة رئيس الوزراء قبل ثلاثة وأربعين يوماً من زيارة عقار، وأن تُستكمل الآن بوصول أفورقي. وهنا يتأكد ما أشارت إليه المقالات السابقة: أن المسار السياسي رُسم فعلاً عبر الزيارات، لكن تحويله إلى خطوات عملية ما يزال معطلاً في الخرطوم لا في أسمرا.
▪️وبرغم أن الزيارة من حيث شكلها البروتوكولي تتسق مع لقاء رؤساء الدول، فإن مضمونها—أو ما غاب عنه—يكشف أكثر مما يُعلن. فإريتريا، بخبرة قيادتها وصلابتها السياسية، لا تتحرك للمجاملة. حضور أفورقي يعني أن لدى أسمرا تصوراً واضحاً لما تريد وما تخشاه: تريد استقرار الحدود، وتريد ضمان عدم نشوء بيئات معادية قربها، وتريد قراءة دقيقة لموقع السودان في خضم التنافس الدولي على البحر الأحمر. لكنها تخشى في المقابل أن ينتج الفراغ السوداني واقعاً جديداً يُفرض عليها بدلاً من أن تكون جزءاً من صناعته.
▪️أسمرا أبقت يدها ممدودة للخرطوم قبل الحرب، وبعدها عززت هذا الاتجاه عملياً عبر ثلاث زيارات متتالية، لكن الخرطوم لم تغادر محطة التردد وضعف وحدة الرؤية في إدارة الملف. اللغة التعميمية في بيان الزيارة، وتكرار العبارات ذاتها التي وردت في الزيارات السابقة، كلها تشير إلى أن الزيارات تتحرك إلى الأمام بينما تبقى السياسة التنفيذية في مكانها.
▪️وعليه، فإن قراءة الزيارة الأخيرة لا يمكن فصلها عن سابقاتها، لكنها لا تُختزل فيها أيضاً. فالزيارة الحالية تبدو أشبه باختبار مفتوح: هل السودان مستعد للدخول في علاقة مؤسسية مستقرة، أم سيظل يدور في دائرة التردد التي تجعل كل زيارة جديدة نسخة غير مكتملة من سابقتها؟ وهل الخرطوم مستعدة للانتقال إلى مرحلة القرار السياسي الواحد، أم ستظل تتعامل مع الملف بمنطق “كل مؤسسة تعمل وفق ما تراه”، وهو ما يجعل أي مسار تنفيذي عرضة للتعطيل والانتكاس؟
▪️لقد أرادت أسمرا القول عبر زيارة أفورقي ما لم يقله البيان الرسمي: إنها جاهزة لعلاقة أعمق وأكثر تنظيمًا، وإن نافذة التحولات الإقليمية مفتوحة الآن، وعلى السودان أن يحدد موقعه قبل أن تُغلق. وفي المقابل، تُظهر الساحة السودانية أن الإرادة موجودة، لكن آليات التنفيذ لم تُحسم بعد، وأن القرار الكبير ما يزال ينتظر من يتخذه ويثبت عليه.
*_خلاصة القول ومنتهاه_ :*
إن السودان يقف أمام لحظة مفصلية في واحد من أهم ملفات أمنه القومي. الزيارات الثلاث رسمت الطريق، لكن السير فيه يحتاج إلى قرار واحد، ويد واحدة، ومؤسسة واحدة. ولا مؤسسة أجدر من وزارة الخارجية لتولي هذا الملف بحكم اختصاصها وقدرتها على تحويل السياسة إلى مسار تنفيذي متصل. وإن لم يُحسم مركز القرار الآن، فسيبقى كل ما تحقق قابلاً للتبخر مع أي تناقض داخلي، وسيظل سؤال “من يملك القرار ومن يُكمل المسار؟” معلّقاً بلا إجابة.
