خباب النعمان يكتب : *حميدتي و الاسلاميون.. علاقة ملتبسة من التنافس الي العداء*
فيما وصف ميلان كونديرا السياسة بكونها “المجال الأثير للمفاوضات السرية”، شهدت مرحلة ما قبل ثورة ديسمبر -التي لم تُحكَ على نحو تفصيلي بعد- سباقًا محمومًا على مضمار ترتيب المسرح السياسي السوداني في خضم التفاعل الجدلي ما بين القوى الصاعدة والقوى السائدة، والصراع بين القديم والقادم، في عتمة ما أسماه غرامشي ذات مرة “ظلال قديم ما لم ينتهِ تمامًا وجديد لم يبرز تمامًا”. في تلك المرحلة، كان رهان البشير على حميدتي لا يخفى على ذي بصيرة وهو يعيد صياغة قوى عنف الدولة لا على موجهات الأمن القومي وإنما على هوادي استبقاء سلطته بلا اشتراطات تنظيمية أو مشاغبات مراكز القوى ومجموعات المصالح، فمضى حميدتي بالاقتصاد السياسي للإنقاذ المثار ضدها أشواطًا من حيث تخلف جموع الإسلاميين الذين تفرقت بهم السبل. غير أن حميدتي الذي كان يدرك بحدسه قبل حسه قواعد اللعبة ومساحات المناورة، تجاوز محطات الصداقة مع الإسلاميين باكرًا إلى حمأة التنافس بعد استئناسه من رأس النظام الذي أفاض عليه من النياشين والجوائز المباشر منها والمرموز حتى غدا معروفًا بين الناس باللقب الرئاسي الشهير “حمايتي”، وهو لقب يقرأ من كل زوايا المعنى بوصفه محميًا من الرئيس وحامٍ له في ذات الوقت.
كانت الإنقاذ تتحول تدريجيًا من حوزة الأيديولوجيا إلى المنطق البراغماتي السلطوي الذي يتشارك الحكم مع قطاع كبير من الأحزاب والكيانات ووجوه المجتمع التقليدي، ويستبقي على السلطة فيما أسماه البعض بدولة “مدراء المكاتب” حيث حاز الفريق طه عثمان ليس على موقع مدير مكاتب الرئيس فحسب، بل وعلى مقاود صنع القرار والتأثير ضمن شبكة سلطوية سياسيًا ومصالحية اقتصاديًا متناهية في ظهورها وفي خفائها، ولم يلبث حميدتي أن وجد نفسه في عمق التشكيل السلطوي الجديد وأحد أهم مصادر قوته وشوكته
ومع التغير الذي طرأ بإبعاد الفريق طه عثمان الحسين واللواء عبد الغفار الشريف وعودة الفريق صلاح قوش، حاول حميدتي أن يعيد تموضعه دون أن يقطع حبال الوصل مع مجموعته المرتبطة برهانات الإقليم، سيما بعد حرب اليمن التي قوبلت المشاركة فيها بمعارضة شرسة داخل شورى المؤتمر الوطني.
يقول مصدر خاص كان مقربًا من قائد الدعم السريع حينها: إن الجنرال حميدتي -الذي قارب المرحلة بحذر بالغ وحس براغماتي- أمدّ جسور الصلة مع مجموعات الإسلاميين دون أن يخسر ثقة الرئيس أو أن يفقد صلته مع مجموعة الفريق طه، وأنه استطاع أن يبعث التطمينات للرئيس البشير في مرحلة الانتفاضة الثورية.
حميدتي والبشيرجمعت الرئيس المعزول عمر البشير وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو علاقة خاصة
وقال مصدر مطلع فضل حجب هويته لـ”الترا سودان”: إن حميدتي كان متواصلًا بدون وسيط مع علي أحمد كرتي الأمين العام المكلف للحركة الإسلامية السودانية، وقد وفر حميدتي الدعم اللازم والحماية الكاملة لمواكب الإسلاميين ضد قوى الحرية والتغيير. ولم ينف المصدر أو يثبت ما تم من تسريبات بخصوص لقاء جمع كرتي وحميدتي في 17 نيسان/أبريل 2019 بعد ستة أيام من سقوط البشير، بجانب لقاء آخر جمعهما في ضاحية كافوري في الثاني والعشرين من آب/أغسطس 2022، مؤكدًا أن مجلسًا تنسيقيًا انعقد في أول أيام الثورة ضم مجموعة من قيادات الإسلاميين وعناصر من الدعم السريع كان يتناول تنسيق المواقف بشكل دوري. وبحسب المصدر الذي تحدث لـ”الترا سودان” فإن أمين عام الحركة الإسلامية المكلف مع فقدان السلطة كان يعول على استعاضة التأثير بالنفوذ على مؤسستي الجيش والدعم السريع، واتقاء هجمة حكومة الثورة الضارية المتجلية في “تفكيك التمكين” وتخفيف حدتها في أدنى المراتب الممكنة.
وأكد ذات المصدر أن حميدتي وإخوانه سعوا إلى التواصل مع قيادة الإسلاميين مؤخرًا بغرض إيقاف الحرب والوصول إلى تسوية مرضية لجميع الأطراف، وأن خطاب حميدتي الأخير الذي بدا أكثر حدة تجاه البرهان وأقل احتدامًا حيال الإسلاميين ربما يقرأ منه ذات المنزع القديم. مشيرًا إلى أن الدعم السريع تضج بعناصر الإسلاميين الذين غلبوا رابطة الدم على الفكرة، وهم أقرب بطبيعة التنشئة وتأثيرات بيئة التدين إلى الإسلاميين من حلفائهم الحاليين في قوى الحرية والتغيير – حد قوله.
ويرى المختص في تحليل بنية السياسات والمؤسسات محمد الواثق أبوزيد أن العلاقة بين حميدتي والإسلاميين لا تخلو من تقاطعات والتباسات، ويمكن مقاربتها من منظور كليهما للآخر: إذ يعتقد قائد الدعم السريع أن الإسلاميين شكلوا عبئًا ثقيلًا على الرئيس واستمرار سلطته، واصفًا إياهم بالمنظومة الفاسدة التي تتكسب من السلطة دون وجه حق، مع إيمانه العميق بقدرتهم التنظيمية ونفاذهم المؤسسي، وهو أمر كان يتداوله حميدتي بشيء من الإعجاب في جلساته الخاصة.
ويرد أبوزيد التشويش والاضطراب الذي تتسم به رؤية قائد الدعم السريع للإسلاميين إلى عدم إدراكه لتعقد المشهد الإسلامي في تشظيه بعد المفاصلة وتجاذباته مع بنية مؤسسات السلطة، فضلًا عن مستويات العلاقة بين حاء الحزب وحاء الحركة مع ذهاب حاء الحكومة بثورة ديسمبر 2018.
الأمين العام للحركة الإسلامية السودانية علي كرتي
علي أحمد كرتي الأمين العام المكلف للحركة الإسلامية السودانية
أما حول رؤية الإسلاميين للدعم السريع فيرى الواثق أن دخول حميدتي ما بعد انتفاضة أيلول/سبتمبر 2013 ضمن تشكيلات قوى عنف الدولة والتحكم فيها مؤسسيًا عبر جهاز الأمن والمخابرات وهيئة أركان القوات المسلحة كان أمرًا سائغًا ومقبولًا ضمن تلك الصيغة المُدارة على نحو محكم سيما في ظل الأدوار المقدرة للدعم السريع في إجهاض مشروع حركات دارفور بعد معركة قوز دنقو في 2017. ويرى الواثق أن نخبة من الإسلاميين كانت ترى خطورة الاستثمار في الدعم السريع ليس فقط لأنه أتى محمولًا على فرضية استبدال العصبية الأيديولوجية التي مثلتها تجربة الدفاع الشعبي بالعصبية القبلية في تجليها الأسري وما شكله من اعتراضات مكتومة لعضوية التنظيم في دارفور خاصة، وإنما لما يمكن أن يخلقه كيان أمني يعمل بمعزل عن هوادي التنظيم ويكرس سلطة الرئيس في أفق إحلال سلطة المشروع بمشروع السلطة، والآثار الكارثية المتوقعة في هذا الصدد مع حدوث أي اختراق داخلي أو خارجي.
يرى الواثق أن أهم نقاط الالتقاء بين حميدتي والإسلاميين هو اشتراكهما في تغليب الخطاب الديني والموقف من العلمانية التي وسمت خطاب قوى الحرية والتغيير، وهو الأمر الذي جعل حميدتي أقرب آصرة إليهم، لا سيما مع محاولات “حكومة الثورة” إجراء تعديلات على المبادئ الدستورية بما يخالف ما تواضع عليه الإسلاميون في عهدهم المتطاول، وما أثارته محاولات نخبهم الصاعدة إلى صدارة المشهد من تغيير لطبيعة المناهج التعليمية وقوانين الأحوال الشخصية وتنظيم الأسرة. أما مظان الافتراق اللافت بينهما فتكمن بحسب الواثق في التنافس على الحواضن الاجتماعية والقطاع التقليدي ومحاولة تحويل الدعم السريع لكيانات الإسلاميين إلى عناصر وظيفية وعزلها عن أشواقها التي لم تنتهِ بذهاب سلطتها.
اقرأ/ي أيضًا:
الدعم السريع.. هل فشلت في إدارة المدن؟
اللحظة الفارقة في علاقة الإسلاميين مع حميدتي أتت مع نيسان/أبريل 2019 -كما يعتقد الواثق- وذلك لأنها وثقت علاقة الأخير بالمحور الإقليمي المناوئ لسلطتهم وتبني الموقف الإماراتي في عدائه السافر لمشروع الإسلاميين والذي يتبناه محمد بن زايد بشكل واضح ومعلن، فضلًا عن الاحتواء المزدوج الذي مارسه كل طرف: حميدتي الذي أراد توظيف عناصر الإسلاميين لصالح مشروعه، والتنظيم الذي أراد أن يعوّض عن فاقد السلطة بتسخير إمكانات الدعم السريع لإبطال مفعول محاولات طمسهم وإلغاء وجودهم وشهودهم.
المفارقة الكبرى التي حواها خطاب حميدتي الأخير كانت بخصوص سعيه لمقابلة الشيخ علي كرتي، حيث أظهرت من حيث أرادت أن تخفي العلاقة الملتبسة مع الإسلاميين
المفارقة الكبرى التي حواها خطاب حميدتي الأخير كانت بخصوص سعيه لمقابلة الشيخ علي كرتي، حيث أظهرت من حيث أرادت أن تخفي العلاقة الملتبسة مع الإسلاميين كفصيل نافذ ومؤثر ومتجذر في عمق التشكيل الاجتماعي في السودان، وليس كحالة يُراد أن تعلق عليها خطايا الممارسة السياسية بشكل انسحابي كسول لا يتسق وتعقيد المشكل وفداحة آثاره وظلاله، الأمر الذي يستدعي تواضعًا إزاء التعقيد الهائل لأزمة السودان المزمنة، وتسامحًا يتسامى على الجراح ولا يتناسى أوجاع الضحايا والمكلومين في آن.