منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

اللواء (م) مازن محمد إسماعيل يكتب : *مؤسسات التجهيل وصناعة الغباء*

0

اللواء (م) مازن محمد إسماعيل يكتب :

*مؤسسات التجهيل وصناعة الغباء*

٢٨ فبراير ٢٠٢٤م

◼️قد لا يستوقف الكثيرين أن الحرب العالمية الثانية التي بلغ ضحاياها ١٢٠ مليون إنسان كانت قد اندلعت على أساسٍ عِرقي بين أصحاب الدماء الزرقاء وغيرهم من الأوربيين الذين رزحوا تحت الحروب الطائفية والعرقية على امتداد ما يزيد عن ١٢٠٠ عام ، فأرادوا أن تكون الحرب العالمية الثانية هي آخر الحروب فيما بينهم ، وأن يتفرغوا لمد سلطانهم على بقية الكوكب ، وحيث أن الدين والعِرق كانا هما السببين الرئيسيين للحروب فيما بينهم .. فقد استغلُّوا الدمار الذي أحدثته تلك الحرب في إعادة بناء بقايا الإنسان الأوربي المُهشَّم على أساسٍ راسخٍ من تهميش الدين في حياته العامة ، كما نسفوا المنظومة العرقية من جذورها الأولية متمثلةً في الأسرة ، وكان سقوط برلين في أيدي الحلفاء قد أطلق واحدةً من أقذر أنواع الاستباحة في التاريخ ، فأقدم الحلفاء على اغتصاب كل أنثى ألمانية (تقريباً) بشكلٍ جماعيٍّ وممنهج بهدف نسف أسطورة الدماء الزرقاء للأبد ، ثم تم تصميم منظومة التعليم على أساس ترسيخ وتكريس واستدامة الحضارة الغربية التي أرسوا قواعدها بنسف منظومتي الدين والأسرة ، ولمَّا كان الإنسان الغربي يعتبر نفسه مركز الكون وبوصلة الإنسانية وحامل لواء القِيَم ، ولأن الأجيال مغسولة الأدمغة التي خلَّفها في مستعمراته تدين للإنسان الأبيض بذات ما يعتقده لنفسه .. فقد سار العالم الثالث لاهثاً على ذات التصميم الذي صنعه لهم الرجل الأبيض لا ليُنهِض به الإنسانية ، ولكن ليعالج به أمراض أوربا المزمنة ، وليضمن به الاستمرار في استتباع مستعمراته بخدمةٍ أفضل لمصالحه.

◼️حكم المسلمون شبه القارة الهندية أكثر من ألف عام ، وفي العام ١٨٣٥م قام اللورد البريطاني توماس ماكولي Thomas Babington Macaulay بزيارة الهند ، وبعد عودته إلى لندن ألقى خطاباً شهيراً في مجلس اللوردات الإنجليزي الذي كان يناقش عزم بريطانيا احتلال شبه القارة الهندية ، وحيث أن ماكولي كان سياسياً ومؤرِّخاً وشاعراً فقد كان لكلماته الأثر البالغ في صياغة الاستراتيجية البريطانية لكل مستعمراتها وليس لاهند وحدها ، ومما قاله ماكولي في خطبته: (لقد سافرت في الهند طولاً وعرضاً ، ولم أرى شخصاً واحداً يتسول أو يسرق ، لقد وجدت هذا البلد ثرياً لدرجةٍ كبيرة ، ويتمتع أهله بقيمٍ أخلاقيةٍ عالية ، ودرجةٍ عاليةٍ من الرُّقي ، حتى أنني أرى أننا لن نهزم هذة الأمة إلا بكسر عمودها الفقري ، والذي أقترح أن يتم بنظامٍ تعليميٍّ جديد ليحل محل النظام القديم ، وعندما يبدأ الهنود بالاعتقاد أن كلما هو إنجليزي جيّدٌ وأفضل مما هو محلي ، فإنهم عندها سيفقدون احترامهم لأنفسهم ولثقافتهم ، وسيصبحون ما نريدهم أن يكونوا عليه ، أمةٌ تمت الهيمنة عليها تماماً) ، واحتلَّت بريطانيا الهند عام ١٨٥٨م ، وتم نفي محمد بادر شاه آخر سلاطين شبه القارة الهندية إلى بورما ، وبدأت حقبة مؤسسات التجهيل في صناعة الموظفين والعمال المهرة لخدمة الرجل الأبيض حضورياً أثناء الاستعمار ، وخدمته غيابياً بعد الاستقلال.

◼️كانت لحظة بلوغ الإنسان ذكراً أو أنثى هي النقطة الفاصلة بين طفولته وبين بلوغه الرشد وتحمل المسئولية ودخوله دورة الانتاج ، وظلت هذه الحقيقة البيلوجية متفقاً عليها ومعمولاً بها على امتداد التاريخ الإنساني بكل تنويعاته ومحمولاته الدينية والثقافية والعرفية والقانونية والمجتمعية .. حتى جاء الإنساني الغربي فصكَّ للناس ارتباط سن الرشد بما صمَّمه من نظامٍ تعليميٍّ أساسي وإلزامي يمتد بالطفولة إلى الثامنة عشرة سنة ، وغالباً يُتبِعها بأربع أو خمس سنواتٍ أخرى للجامعة ، فيُضِيع الإنسان ربع قرنٍ من عمره طفلاً خارج دائرة الإنتاج والمسئولية ، ويضيع معها قمة عنفوان شبابه أثناء حشوا دماغه بتُرُّهاتٍ وأكاذيب ووجهات نظرٍ خائبة قلما تفيده فيما تبقى له من حياته ، وتتم إعادة ضبطه وتنميطه على الصورة التي سبق أن صمَّمها الرجل الأبيض ، فتعاد ولادته للحياة بشهادةٍ تزيده على الجهل صلفاً واثقاً من عجرفته ، ليبدء الكدح مبتدراً حياته التي ضاع ثلثها ، وأغلب الظن أن لا تزيد أحلامه وفرصه عن أن يكون واحداً بين قطعان الموظفين الذين يزحمون المكاتب والطرقات ، ويُراكمون تعقيد الإجراءات ، ويمارسون رذيلة السخط والاحتجاج والإضرابات ، ويعيشون ما تبقى من حياتهم في انتظار المرتبات والعلاوات والترقيات ، وتضطرب قلوبهم من سيرة التقاعد والمعاشات ، ويموتون فقراء على أمل التعويض في حياةٍ أخرى بين الفراديس والجنّات.

◼️يوم ٢٦ يونيو ٢٠٢٠م أصدر دونالد ترمب أمراً تنفيذياً للحكومة الفيدرالية باعتماد المهارات عِوضاً عن الشهادات في التوظيف بمؤسسات القطاع العام ، وكان القطاع الخاص قد سبق إلى هذه الحقيقة منذ زمنٍ طويلٍ مُدرِكاً أن الكفاءة مسألةٌ مرتبطة بالمهارات والقدرات أكثر من ارتباطها بالشهادات التي قد تثبت بأن حاملها مُتعلِّم ولكنه ليس بالضرورة يفهم ، وإذا كانت الحكومة الأمريكية قد فعلت ذلك فقط في العام ٢٠٢٠م فإن الدول الغربية في أوربا قد سبقتها لذلك بأعوامٍ طويلة ، وأما عن كوكب الصين فلا تسل.

◼️في سويسرا الطلاب مجبرون على اختيار مهنة يدرسونها ويتخصصون فيها طيلة مراحل التعليم العام إلى جانب المنهج الأكاديمي ، وبنهاية التعليم العام الأساسي يتم منحهم إلى جانب الشهادة الأكاديمية (توازي الشهادة السودانية) شهادة أخرى للدبلوم الفني الذي تخصص فيه منذ الصف الثالث الابتدائي وعلى امتداد بقية السنوات ، ويُمنح كذلك رخصةً لمزاولة المهنة التي درسها وتدرَّب عليها طيلة عشر سنوات ، وبناءً على شهادتي الدبلوم الفني والرخصة تُقدِّم له البنوك قرضاً مُيسّراً يمتد حتى ثلاثين عام لتأسيس عملٍ خاص في ذات مجال التخصص ، ولذلك ستجد أن الكثرة الكاثرة من السويسريين أرباب عمل ، والقلة القليلة منهم موظفون ، حتى أن سويسرا تضطر أحياناً للاستعانة بالأجانب في وظائف حكومية ، وهو ذات السبب الذي يجعل من يدخلون الجامعات في سويسرا لا تتجاوز نسبتهم ١٨% فقط ، ليس لقلة تحصيلهم الأكاديمي ، وإنما بسبب أن حياتهم العملية الناجحة والمستقلة مضمونة دون الجامعة ، ويترتب على ذلك أن البطالة والفقر في أدنى مستوياتها عالمياً هناك.

◼️كان من أهم مميزات الفترة الاشتراكية في السودان اهتمامها بالتعليم المهني ، والذي كان طلابه يتقاضون خلاله مكافئاتٍ ماليةً شهريةً أثناء فترتهم الدراسية ، فكان لدينا مدرسة التونج الصناعية والتي كانت أكبر معهد صناعي في إفريقيا ، وتليها مدرسة نزريت الصناعية في واو ، ومعهد الكليات التكنولوجية في الخرطوم ، والتدريب المهني في الخرطوم ، وعطبرة الصناعية ، والمعاهد الزراعية مثل أبوحراز وأبونعامة ، وغير ذلك كثير ، وقد كان من سلبيات ثورة التعليم العالي أن (طورت) بعض هذه المعاهد إلى جامعات ، والحقيقة أنها كانت في معظمها انتكاسة كبيرة لسوق العمل والمهارات ، علاوة على مسايرة النظرة المجتمعية السطحية في اعتبار التعليم الفني أقل شأناً من الأكاديمي ، فنشأت نظرة طبقية ثقافية واجتماعية جوفاء وزائفة تستند إلى الشهادات الجامعية وفوق الجامعية دونما فائدةٍ محسوسةٍ في الثقافة أو العلوم أو سوق العمل ، وترتب على ذلك منصرفات هائلة تتحملها الدولة وعائلات الطلاب دونما أدنى جدوى موازية.

◼️إن كل علوم الفيزياء والكيمياء التي درسناها في مناهجنا قد ثبت علمياً بأنها محض هراء ، وهي لا تزال تُدرَّس إلى اليوم ، فأشكال المادة ليست ثلاثةفقط ، بل زادت باكتشاف المادة المضادة Unti Matter والبلازما Plasma والمادة المظلمة Dark Matter ، والإلكترونات ليست هي أصغر الجسيمات ، والجسيم يتصرف أحياناً كموجة ، والفيرمونات (أصغر جسيمات المادة المُكتَشفة) هي محض طاقة غير مستقرة ، وعملياً قد انتهى عصر الفيزياء الكلاسيكية (فيزياء نيوتن) ، ومضى العالم بعيداً في الفيزياء الكمومية (فيزياء ماكس بلانك) ، والثورة الصناعية دفنتها الثورة التكنلوجية والتي تطورت إلى رقمية ، وانقضى تماماً عصر حفظ الدروس عن ظهر قلبٍ لاستفراغها على ورقة الامتحان ، فكل المعرفة الإنسانية أصبحت متاحةً في أدمغة أصحاب الدخل المتوسط ، ويمكن تحميل كل العلوم الإنسانية في دماغ الإنسان بشريحة neuralink والتي لا يزيد ثمنها عن ($10,500) ، والمرتبطة بجوال Tesla الذي يتراوح سعره بين 800$ – 1200$ ، والذي يعمل بنظام Starlink الذي تبلغ تكلفته 600$ وإيجاره الشهري 130$ ، كما تم إزالة حاجز اللغات بسماعات الذكاء الاصطناعي Click S ($70) الذي يدبلج الكلام بذات البصمة الصوتية للمتكلم ، وغنيٌّ عن القول أن كل ذلك هو مجرد بداية متواضعة لعصر العالم الرقمي وأكوانه الافتراضية ، والتي بدأت بالكون ميتا Metaverse.

◼️إن التخطيط للعملية التعليمية يجب أن يقوم على دعائم أساسية تراعي:
1️⃣التربية والقِيم.
2️⃣ استراتيجية الدولة ومواردها.
3️⃣احتياجات سوق العمل.
4️⃣حسن توظيف المعرفة.
5️⃣تطوير المعرفة.
وعندما يتم إغفال هذه الركائز ، فإن ناتج العملية التعليمية يمكن أن يكون أي شئ غير الارتقاء الحضاري أو العلمي والتكنلوجي أو الاقتصادي أو حتى رفع المستوى المعيشي ، ودونما تفصيلٍ أكثر فإن إعادة تصميم العملية التعليمية يجب أن يراعي أهمية دخول الإنسان دائرة الانتاج بسن ١٤ عام كحدٍ أقصى ، والتركيز على التخصصية ، والبدء من حيث انتهت المعرفة الإنسانية ، وتجنب الحشو في المناهج ، والاهتمام بالدراسة للمستقبل عِوضاً عن التركيز على دراسة الماضي … ورحم الله المهندس يوسف مصطفى التني إذ يقول:

*وطني شَقيتَ بشِيبه وشبابِهِ*
          *زمناً سقاكَ السُّمَّ من أكوابهِ*

*قد أسلموكَ إلى الخرابِ ضحيةً*
       *واليومَ قد طرِبوا لصوتِ غُرابهِ*

*وطني تَنازَعه التحزُّبُ والهوى*
          *هذا يَكيدُ له .. وذاك طغى بهِ*

*ولقد يُعاني مِن جفا أبنائهِ*
           *فوق الذي عاناهُ من أغْرابه*

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.