التيجاني عبد القادر حامد يكتب : *الصفقة الكبيرة الخاسرة في ملف السودان (1-7)*
مقدمة:
لا شك أن الحرب الراهنة (15 أبريل 2023-) التي قتل فيها آلاف السودانيين المدنيين الأبرياء، وشرد الملايين منهم من منازلهم، بعد أن سلبت ممتلكاتهم، وانتهكت حرماتهم، ستطرح أسئلة حارقة على كل فرد منهم؛ أسئلة لا تتعلق بالولاءات السياسية والمنهوبات المنزلية وحسب، وإنما تتعلق بالوجود- وجود الانسان على خارطة الزمان، ووجود الوطن على خارطة المكان. وبما أن هذه الحرب أخذت الكثيرين منهم على حين غرة، فقد وجدوا أنفسهم كأصحاب سفينة مخطوفة، يسأل بعضهم بعضاً: من هؤلاء القراصنة وماذا يريدون؟ وهل تسللوا إلى كابينة القيادة بمكرهم المستقل، أم لهم “أعوان” بيننا؟ وهل يريدون اصلاح السفينة أم اغتصابها؟ وهل يعملون أصالة عن أنفسهم أم أن وراءهم “قراصنة كبار” يأخذون كل سفينة غصباً؟ وهل نهرب ونترك لهم السفينة، أم نقاتلهم عليها، أم “نتعايش” معهم، أم ماذا نفعل؟
أسئلة يأخذ بعضها برقاب بعض وتبحث عن إجابات. والاجابات-أياً كانت- لا تمثل حلاً للمشكلة ولكنها تُمهد الطريق لفهمها. فما لم تُفهم المشكلة بصورة سليمة فتحدد مكوناتها وشبكة علاقاتها فان الحلول المقترحة والمبادرات المتعجلة قد لا تفيد إلا من حيث تخفيف الآلام الراهنة، ولكنها لن تعالج المرض الدفين الذي يسبب تلك الآلام. نحاول في هذا المقال أن نقدم “فهمنا” الخاص لما جرى من أحداث، معتمدين على ما توفر لنا من معلومات. ثم نختمه بما قد يبدو لنا من “خلاصات” في ضوء ذلك الفهم. ومن المهم ابتداء أن نذكر القارئ أننا لا ندعى اكتشاف معلومة جديدة أو وثيقة لم تكن معروفة لديهم. كل ما نسعى إليه هو أن نربط بين المعلومات والوثائق المتوفرة ربطاً منطقياً يجعلنا نرى تلك المعلومات بصورة جديدة. أي أننا نسعى لتقديم “رؤية تفسيرية” تنتظم في اطارها كثير من المعلومات المتناثرة، فنحصل من خلالها على إجابات مناسبة لكثير من الأسئلة العالقة، وقد نتوصل-من ثم- إلى حلول محتملة. ورغم أن المقال طويل وذا طبيعة أكاديمية، إلا أننا فضلنا أن ننشره-منجماً- على هذه الصفحة احتراماً لمتابعينا من الأصدقاء الذين يهتمون بما نكتب.
والأطروحة الأساسية في المقال تتكون من شقين، الأول: أن أغلب القوى السودانية المنظمة (السياسية والاقتصادية) قد خرجت من دوائر التأثير، واحتل مكانها فاعلون كبار (في المحيط الاقليمي والدولي) وصاروا يتقاسمون ملف السودان منذ سنوات الإنقاذ الأخيرة، ولكن حضورهم قد تعاظم مع أحداث الثورة الشعبية التي أطاحت بالنظام. أما الشق الثاني: أن هذه القوى الخارجية لا تعمل لاستعادة نظام ديموقراطي مفقود، أو لبناء مؤسسات مدنية أو عسكرية راسخة، أو للتشارك مع شخصيات وطنية وازنة. كل ما تهدف إليه هو أن تؤل قيادة الدولة في سودان ما بعد الثورة إلى ما يعرف في علم النفس الاجتماعي بالشخصيات “الظرفية” التي يمكن أن يتحكم فيها الفاعلون الكبار لتحقيق مصالحهم. والشخصية الظرفية، أو القائد الظرفي هو شخص لا يتصرف وفقاً لقناعات داخلية قوية، أو رؤية فكرية متماسكة، وإنما يتقمص “الدور” الذي تفرضه الظروف المحيطة، ويتخذ قراراته أو يتخلى عنها بحسب اكراهات البيئة المحيطة. (الجدير بالذكر أنه قد أجرى أحد علماء النفس في عام 1972 تجربة علمية للتحقق من صدقية هذا المفهوم عرفت بتجربة سجين استانفورد، حيث اختير عدد من الناس العاديين ليتطوعوا بتمثيل دور السجناء، وطُلب من آخرين أن يمثلوا دور الحراس. لُوحظ بعد أسبوعين فقط أن “الحراس” قد اكتسبوا غلظة، وصار الواحد منهم يلعب الدور الحقيقي للسجان، فيتعسف في استخدام السلطة، ويسرف في استخدام القوة، ويخرج تماما على السيناريو، مما جعل الأستاذ المشرف على التجربة يفقد السيطرة على المتطوعين فيستدعى الشرطة لفض الاشتباكات. الخلاصة التي يمكن أن تستفاد من هذه التجربة أن هناك شخصيات عادية ولكنها إذ وضعت تحت ظروف خاصة، وفرض عليها أن تلعب بعض الأدوار، فإنها قد تبالغ في تقمص الدور المرسوم، وستتحول بالفعل إلى شخصية ظرفية، وقد فتخرج أحياناً على النص وتخرج عن السيطرة).
على أنه ينبغي أن نفرق بين الشخصية “البراغماتية” التي تمتلك رؤية وقدرة ذاتيتين ولكن عوامل في البيئة الخارجية تلقى عليه بثقلها، فيطاوعها حيناً-وهو مكره- ويطوعها حيناً آخر. وهذا ما يجعل الفارق شاسعاً بينه وبين صنف آخر من الناس لا يمتلكون سوى قدرة فائقة على لعب الأدوار، فيتقمص أحدهم الدور المناط به ويمثله كأحسن ما يكون التمثيل، ثم يقوم تحت ظروف أخرى بلعب الدور النقيض. مثل هذه الشخصيات الخاوية تربك المشهد السياسي، فلا يدرك المراقبون ما إذا كانت المواقف والمشاهد التي تجرى أمام أعينهم مواقف حقيقية أم نوعاً من التمثيل؟ وهل من يجلس في كابينة القيادة قادة براغماتيين يغالبون الظروف، أم قادة “ظرفيين” يلعبون أدواراً مرسومة، ويتحركون بخيوط من خارج المسرح؟ وهل سيستمرون في التمثيل أم سيخرجون على النص فتصعب السيطرة عليهم؟
هذا، وليس من المبالغة في شيء إن قلنا إن السياسة السودانية المعاصرة يسيطر عليها-قبل الحرب وبعدها- قادة ظرفيين. ينطبق هذا الوصف على الفرقاء الثلاثة (ابن عوف والبرهان وحميدتى)، كما ينطبق على رصفائهم من القادة المدنيين. غير أننا نود في هذا المقال أن نستكمل دراستنا السابقة لواحد من هذه الشخصيات هو الفريق حميدتى، لا لشيء إلا لأنه (أولاً) قد بلغ منزلة في لعب الأدوار وتحريك الأحداث لم يبلغها الآخرون- رغم سمات البساطة والبداوة والجهالة التي يكتسي بها؛ و(ثانياً) لأن القوى الخارجية (الإقليمية والدولية) قد وجدت فيه نموذج الشخصية “الظرفية” التي يمكنها أن تحرك الشخصيات الثانوية في الداخل، كما يمكنها أن تُحرّك هي ذاتها من الخارج- دون إحساس بالحرج. نود إذن في هذا المقال أن نستقصى-بتركيز مقصود- الدور الذي لعبته تلك القوى في تحريك الفريق حميدتى وفقاً لأغراضها، والدور الذي لعبه الفريق حميدتى في تحريك وقائع السياسة السودانية في الخمس سنوات الأخيرة (منذ سقوط حكومة الإنقاذ في ديسمبر 2018 إلى اندلاع الحرب الراهنة في أبريل 2023). وليس غرضنا أن نتوقف عند هذا الحدث أو ذاك، وإنما غرضنا (كما أشرنا آنفاً) هو البحث عن نقاط الترابط بينها، والتعرف على الاتجاه العام الذي تسير فيه. وسيكون منهجنا هو: التساؤل/والافتراض/والتحقق؛ أي أن نطرح أسئلة نراها ضرورية، وأن نفترض إجابة نراها منطقية، ثم نحاول أن نتحقق ما إذا كانت الحقائق المتاحة تؤيد أو تدحض ما افترضنا من إجابة. وقد استطعنا من بعد تدبر أن نطرح الأسئلة العشرة التالية:
1- هل كان “لمجموعة الأربعة” دور في صعود الفريق حميدتى إلى موقع الرجل الثاني في مجلس السيادة؟
2- هل اُستدرج-أو استغفل- الفريق حميدتى ليقوم (هو وقواته) بدور في فض اعتصام القيادة العامة؟
3- هل صار ملف فض الاعتصام ورقة ضاغطة تستخدمها “قحت” والقوى الإقليمية والدولية (مجموعة الأربعة) لتهديد الفريق حميدتى وابتزازه؟
4- هل كان التهديد بملف فض الاعتصام واحداً من الأسباب التي جعلت الفريق حميدتى يفض الشراكة مع “قحت” ويدبر ضدها انقلاب 15 أكتوبر 2021؟
5- هل دُبر الانقلاب في ضوء “تفاهمات” مع بعض القوى الدولية (الحكومة الروسية مثلاً؟)
6- هل كان تقارب الفريق حميدتى مع روسيا (وزيارته لها بدعوة من الرئيس بوتن)، وتباعده عن “مجموعة الأربعة” هو ما جعل مجموعة الأربعة ترفع “البطاقة الحمراء” في وجه حميدتى، وتستخدم ملف فض الاعتصام لتهديده وابتزازه للمرة الثانية؟
7- هل قبل الفريق حميدتى-تحت التهديد والاغراء- أن يدخل في صفقة جديدة مع مجموعة الأربعة ومع حلفائها في الداخل (قوى الحرية والتغيير)؟
8- ما طبيعة تلك الصفقة-إن وجدت؟ هل كانت تتضمن الابتعاد النهائي عن روسيا وحلفائها في المنطقة (إيران/الصين/تركيا)؟ هل تتضمن-في المقابل- وعداً جازماً بأن يطوى ملف فض الاعتصام؟ وأن تؤول السلطة العسكرية العليا في السودان إلى الفريق حميدتى وقواته في حين تؤول السلطة السياسية الى قوى الحرية والتغيير؟
9- بعد الحرب الكارثية التي تورطت فيها قوات الدعم السريع، وتضاءل الدور الذي يمكن أن يقوم به الفريق حميدتى (سياسياً وعسكرياً)، هل تغيرت تبعاً لذلك استراتيجية مجموعة الأربعة، وهل هناك توجه نحو “الانفكاك المتدرج” عن حميدتى وقواته؟
10-ما أهم الخلاصات التي يمكن أن تمثل مداخلاً للحل؟
….
#منصة_اشواق_السودان