منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

صهيب حامد يكتب : *آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (١٨-٣٠ )*

0

صهيب حامد يكتب :

*آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (١٨-٣٠ )*

صهيب حامد

حسناً.. وكما أسلفنا في الحلقة السابقة ، فلقد وقع أستاذنا محمد أبو القاسم حاج حمد في ما أسميناه بالمغالطة الإشكالية(Promblematique fallacy) وهي للأسف متلازمة وقع فيها كل مفكري ومؤرخي المركز العروبي في السودان في سياق تناولهم وتحليلهم للقوى الإجتماعية بغرب السودان من منتصف القرن التاسع عشر فصاعداً إلى إندلاع الثورة المهدية!!. وفي ذلك فحاج حمد ليس بدعاً ضمن أجيال مفكري ومؤرخي المركز العروبي في السودان ، الجيل السابق له ومثاله د. مكي شبيكة حيث متح (حاج حمد) ، والجيل اللاحق وقد إخترنا كاتباً من جيل الشباب المحسوبين على المركز العروبي (أ. غسان علي عثمان). فهذا الأخير في كتابه (السودان عنف النخبة.. قراءة في جذور التكوين والإمتياز) يقف متّكئاً على إرث العرّاب الحالي لمفكري وكتّاب المركز العروبي في السودان (حاج حمد) متسائلا ما إذا كان المهدي هو المظهر الشمالي (المركز) لصوت قادم من الهامش (الغرب)؟.. بمعنى أوضح ما إذا كان المهدي قد مثّل الجسر الذي عَبَر عليه الخليفة عبد الله؟ عَبَر عليه بسبب فهمه طبيعة مؤسسة النخبة المتمركزة في شمال السودان؟ وهل كانت المهدية حركة للهامش ضد المركز؟ص ٦٧. يستطرد عثمان قائلاً:(فرجل كان في مقام العَبِيد (يخدم شيخه محمد الشريف) كيف له أن يتطاول ويرتقي هكذا ضربة لازب من موقعه الأدنى لموقع السيادة والحكم!!؟)ص٨٢ المرجع السابق. ثم يستشهد عثمان بعدها بالعرّاب (حاج حمد) هذا الأخير الذي يقيم المقارنة بين شمال السودان وغربه واصفاً الأخير (في نمطية مملّة) بعزلته عن مراكز الحضارة المتوسطية يقابله واقع قبائل عربية التكوين في الغالب الأعم ، ويعنى تاريخياً تلك الدائرة التي إحتواها نشاط العبدلاب لثلاثة قرون قبل التركية..ثم أن إسلامها ثراثي راسخ ص٨٥ المرجع السابق. هنا يستشهد عثمان ب(شقير) نقلاً عن الزبير باشا في حكيه محاولة عبد الله ود تورشين إقناع الزبير باشا بمهديته (أي الزبير) بقوله له رأيت في المنام أنك المهدي المنتظر وأني أحد أتباعك فأخبرني إن كنت مهدي الزمان!!!. إذن يواصل عثمان مستطرداً أن عبد الله ود تورشين لم يكتشف فجأة أن المهدية قادمة من النيل ، فهو وزير المهدي قبل ظهوره وهو ما يجعله صانعها (أي المهدية) وليس مكتشفها فحسب!!!. لكن فجأة يقفز عثمان في إضطراب وإرتباك ظاهر مستدركاً:( ما نريد قوله أن محمد أحمد ليس صنيعة ود تورشين ، ولا يمكن أن يكون. السبب هي مؤهلات محمد أحمد ورؤيته السياسية التي تتمتع بحنكة غير منكرة). لا يقف عثمان هنا فحسب بل يقفز بمحمد أحمد (قاصداً المهدي) أعلى من بني جلدته من جلابة الأُبيّض الذين إستضافوه لتفوقه عليهم في الرؤية الكلية في إقتصاد المعرفة وقد عرض محمد أحمد بضاعة أخرى ، بضاعة داعبت مشاعر جماهيره الجديدة) ص ١٢٢ نفس المرجع.

إذن تنتقل المغالطة الإشكالية عابرة للأجيال ، العدوى تنتقل من جيل المركز العروبي الوسيط (حاج حمد) إلى الجيل المتأخر (غسان على عثمان). تتجلّى إستمراريتها (أي المغالطة الإشكالية) في الإرتباك المنهجي الذي سيطر على تحليل هذا الأخير للعلاقة بين المهدي والخليفة. فلقد سوَّد ١٢٢ صفحة من كتابه (عنف النخبة) متنقلاً من رأى لآخر في أولوية العلاقة بين الرجلين. فلقد خارت قوى مفكرى ومؤرخي قوى المركز العروبي في السودان متقاصرة عن تحليل واقع قوى الغرب الإجتماعي إبان المهدية نتاج قصور أدواتي (Instrumental) ، كي تصعِّد هذه النخبة عبر أجيالها المختلفة في سرداب التاريخ منتهية لدى ممثل جيلها الأخير (أ. غسان علي عثمان) بنفس الوعي المتقاصر عن تحليل التركيبة الحضارية والإجتماعية لغرب السودان وقد غرّ في روع النخبة العروبية المفكرة أن سودان وادي النيل (الذي يمثله المهدي) وحده قد إمتلك في تلك الحقبة من القرن التاسع عشر موقع حضاري وحنكة سياسية غير منكرة وتفوق في الرؤية الكلية لإقتصاد المعرفة!!!!. هل فعلا قام عثمان بإسقاط هذه التشكيلة العبارية المحدثة من القرن الحادي والعشرين في وصف محمد أحمد (المهدي) مقابل عبد الله ود تورشين!!؟..وهل تتحمل (أبستيمة) منتصف القرن التاسع عشر هذا الإسقاط!؟. إذن غرق حتى الجيل الأخير من كتاب ومفكري المركز العروبي حتى أذنيهم في دالة الجهل الحق للواقع الحضاري والإجتماعي لقوى غرب السودان (فضاء الفاعلية لسلطنة كيرا) الذي بلغ أوج تطوره البرجوازي (حقبتي عبد الرحمن الرشيد ومحمد الفضل) حتى قبل دخول الأتراك السودان بربع قرن. فلقد كان سودان وادي النيل آنذاك يعيش فوضى عصره الوسيط إقتتالا بين الهمج وملوك الفونج المتساقطين كقطع الدومينو حين كانت (الكيرا) قد أعلنت تفوقها العملي على الفونج بضمها لكردفان في ١٧٨٥م ، إلى جانب إتساع دائرة علاقاتها الدولية إبتداءاً بمصر المملوكية ونابليون ثم مصر العلوية إنتهاءاً في أقصى الشمال بالدولة العثمانية التي كانت تمنح الألقاب لسلاطين (الكيرا) .لم تكن الأولوية في العلاقة بين محمد أحمد (المهدي ) وعبد الله ود تورشين تميل لصالح الأول ليس للأسباب التي ذكرها أ.غسان علي عثمان (الحنكة السياسية ، التفوق في اقتصاد المعرفة) ، بل الأولوية تصنعها عوامل بنيوية لا يمكن إدراكها بأدوات قاصرة لا تتجاوز التحليل السايكولوجي!!. فالمهدي قد خرج من (بنية عقل برجوازي) تعطيه الأولوية على عبد الله ود تورشين الذي صدر من (بنية عقل تناسلي) ممثلة في قبائل البقارة.

لقد تفجّرت الثورة المهدية في فضاء فاعلية ثلاثي الأبعاد.. (بنية عقل برجوازي) مثّلها الحكم التركي المرتكز في سودان وادي النيل الأرض التي ضمها محمد علي باشا لممتلكاته في ١٨٢١م ، (بنية عقل برجوازي) أخرى مثّلها فضاء (الكيرا) بدارفور والتي سقطت أيضاً في يد الحكم التركي في ١٨٧٤م على يد المغامر الشمالي (الزبير باشا) ، (بنية عقل تناسلي) مثّلتها قبائل البقارة الممتدة في الرقعة جنوب (الكيرا) في حزام طولي من الغرب للشرق إلى النيل الأبيض مرورا بدارفور وكردفان ليشمل هذا الحزام فضاء الفونج الإجتماعي الذي لم يتبنى الدستور العربي بعكس فضاء العبدلاب الذي تبني أبتداءاً من ١٧٥٢م الدستور العربي منتقلاً إلي سلسلة النسب الذكوري بفضل بادي الرابع والأرابيب ، بعكس الفونج من الأونساب إذ إستدمج فضاء الفاعلية هنا بنية عقل تناسلي (نسب بنات عين الشمس). إذن وفق الوقائع لم تجد تشكيلة الخطاب المهدوي قابلة داخل إطارات بنيتي الوعي البرجوازي القائمتين أنذاك (العبدلاب حيث المركز العروبي والكيرا) وذلك لأن الخطاب المهدوي بتركيبته خطاب باطني غنوصي بعكس اسلام الحكم التركي المدرسي الاسكولاستيكي(Scholastical). الخطاب المهدوي قائم على المنامات والحضرات الغيبية ، وهو لا ينتعش إلا في أطر عقل تناسلي وهو ما توافق مع الإطار الثقافي الاجتماعي لقبائل البقرة. يقول صاحب التحليل الفاعلي (أ. الشيخ محمد الشيخ) عن خصائص هذه البنية (بنية العقل التناسلي) بأن وعيها دوماً يتأسس تناسلياً ، فيعي الرجل نفسه ككائن تناسلي يستمد كينونته من فحولته وتستمد المرأة كينونتها فيه من خصوبة رحمها ، وكذلك يتأسس النظام الإجتماعي المصاحب لهذه البنية على الدم والقرابة ، وبالمقابل فإن النظام المعرفي هنا (الأبستيمة) فهو ذو طبيعة غيبية ، بله فإنسان هذه البنية يصبح قاصر عن تغيير حاله إلا عبر قوة خارقة خارجية (خارج بيئته كالمهدي القادم من النيل أو خارج الكون وحينما يسائَل فإنه يقدم فروضاً غيبية وليس فروضاً واقعية تجريبية ، وكذلك يكون نظام القيم هنا ذا مرجعية تناسلية قائم على أساس الشرف. إذن هكذا نجحت التشكيلة الخطابية المهدوية في تحريك الإطار الثقافي الإجتماعي (لبنية العقل التناسلي) في سودان ثمانينيات القرن التاسع عشر والتي مثّلت لحمتها وسداها قبائل البقارة إلى جانب إمتدادها داخل الجزيرة التي مثلها بقايا الفونج الأونساب!!!.. نواصل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.