*ورقة حول : الأمن المجتمعي مسؤولية الجميع : بين الدولة والمجتمع* عقيد شرطة م عوض عبد الرحمن
*ورقة حول : الأمن المجتمعي مسؤولية الجميع : بين الدولة والمجتمع*
عقيد شرطة م عوض عبد الرحمن

{ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَمۡ یَلۡبِسُوۤا۟ إِیمَـٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ }
[سُورَةُ الأَنۡعَامِ: ٨٢]
لم يعد مقبولًا أن تتحمل الدولة وحدها مسؤولية كل شيء، من الأمن والتعليم والصحة، إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية. هذا النموذج المركزي أثبت فشله، لأنه يُنهك الدولة، ويُعطل طاقات المجتمع، ويُنتج مواطنًا سلبيًا ينتظر الحلول من فوق و النتيجة هي تغوّل دولةبيروقراطية تتضخم وظائفها بينما تتآكل وظيفة وقدرة المجتمع على النهوض بنفسه.
الأمن المجتمعي بمفهومه الشامل لا يعني فقط منع الجريمة أو الحفاظ على النظام، بل يشمل الشعور العام بالأمان، والتكافل، والانتماء والعدل،والمبادرة الفردية والجماعية في خدمة الناس. وهذا الأمن لا تصنعه الدولة وحدها، بل يُبنى من القاعدة: من الأسرة، من الحي، من المؤسسات المحلية، من المبادرات التطوعية، من جمعيات المجتمع المدني، من كل يد تشتبك في البناء لا في التواكل.
لست بصدد الدعوة إلى الخصخصة، بل إلى إعادة التوازن: الدولة يجب أن تنسحب من التفاصيل، وتعود إلى دورها الأصلي كمنظم وضامن للحد الأدنى من الحقوق، ومراقب لضمان العدالة وعدم الاستغلال. أما المجتمع، فعليه أن يستعيد زمام المبادرة. لا يكفي أن ننتقد القصور الحكومي، بل يجب أن نملأ الفراغ بأنفسنا. المبادرات التطوعية في التعليم، العيادات الخيرية، أنشطة الدعم النفسي، العمل المجتمعي المنظم، كلها أدوات لبناء أمن حقيقي، نابع من الداخل، لا مفروض من الأعلى.
تفريغ المجتمع من أدواره يجعل الدولة وحشًا متضخمًا، بينما تذبل روح المجتمع. نحن بحاجة إلى العكس: دولة أصغر، مجتمع أقوى. دولة تحمي، لا تبتلع. ومجتمع يبادر، لا ينتظر.
من أكبر الأوهام التي تسكن العقل المجتمعي الحديث، أن الدولة هي المنقذ الوحيد، والمُزوّد الحصري لكل الخدمات، من الأمن وحتى إصلاح أعمدة الكهرباء. هذه المركزية المطلقة في الأداء أدّت إلى نتيجتين متلازمتين: تضخم بيروقراطي خانق، وتآكل مزمن في وظائف المجتمع. ما لا يدركه كثيرون أن أخطر تهديد للأمن ليس الجريمة المنظمة، بل تراجع المبادرة المجتمعية وتحوّل المواطنين إلى متفرجين ينتظرون التدخل من “جهات الاختصاص”.
نحتاج إلى إعادة تعريف للأمن المجتمعي، لا كحالة عسكرية أو بوليسية، بل كمظلة أوسع تشمل الشعور العام بالأمان، العدالة، الترابط، والقدرة على التعاون والاستجابة الذاتية. وهذا لا تبنيه الدولة وحدها، بل يُبنى من القاعدة عبر تفعيل دور المجتمع، من الأفراد إلى مؤسساته.
حينما تتضخم وظائف الدولة لتشمل كل مناحي الحياة، فإنها تسحب البساط من تحت أقدام المجتمع، فتقوّض قدرته على التنظيم الذاتي. تتحوّل العلاقة من شراكة إلى وصاية. وفي النتيجة، تفشل الدولة في إدارة التفاصيل، بينما يتراجع الحس المجتمعي بالمسؤولية. هذا الوضع لا ينتج “أمانًا”، بل هشاشة مغلّفة بمظاهر بيروقراطية جوفاء.
الدولة ليست قدرًا مقدّسًا، بل كيان من المفترض أن يكون محدد الوظائف: يُشرّع، يُنظم، يُراقب العدالة، ويضمن عدم تغوّل القوى. أما التنفيذ التفصيلي، فالأصل أن يتولاه المجتمع عبر أدواته: مؤسسات، مبادرات، شبكات علاقات، تكافل، تطوع، تعاون.
ما المقصود باستعادة المجتمع لوظائفه؟
لا اتحدث عن الخصخصة، ولا عن ترك المواطنين بلا حماية أو دعم. بل اتحدث عن نموذج يوسّع المساحات التي يتحرك فيها المجتمع بإرادته، عبر:
●. المبادرات التطوعية
●.الشرطة المجتمعية
●. التأمين التعاوني
● . التأمين الذاتي
●.فض النزاعات بالعرف المحلي
●.إدارة الموارد العامة تشاركيا.
هذه الانواع من الحضور الاجتماعي لا يُضعف الدولة، بل يريحها من الأعباء غير الضرورية، ويجعلها أكثر كفاءة في أداء وظائفها الجوهرية.
لكن بالطبع يتطلب مجتمع واعي وقادر علي الاضطلاع بمسئولياته و واجباته بكفاءة واقتدار مع توافر قيادات مجتمعية فاعلة تقود هذا الحراك ولعله من نافلة القول أن من أسباب نجاح تجربة حكم الاسلاميين واستمرارها لثلاثة عقود لم يكن السر في وضوح الرؤية في المشروع أو علي كفاءة وزرائها وحسن أدائهم و مقدراتهم القيادية فحسب ، ولكن وجود حاضنة شعبية داخل المجتمع مؤمنة بالمشروع قادت العمل المجتمعي المساند للدولة من سابق تجربتهم وتغلغلهم في العمل المجتمعي الأمر الذي ادي الي تقاسم الوظائف والادوار بين الدولة والمجتمع في تناغم وانسجام دون تصادم أو تنافر لايمان الدولة نفسها بأهمية وظائف ودور المجتمع وظهر جليا هذا النجاح في تجربة الشرطة الشعبية و مشروع التأمين الذاتي .
~تجارب حيّة: الأمن المجتمعي في الواقع~
1. _الشرطة المجتمعية_ (Community Policing)
هذا النموذج مطبق في كثير من دول العالم، حتى داخل المجتمعات الغربية المتقدمة. يقوم على إشراك السكان في حفظ الأمن، عبر بناء علاقة تعاون بين الشرطة والسكان، لا علاقة سلطة ورهبة. الهدف ليس الردع فقط، بل الوقاية، وبناء ثقة متبادلة، والتبليغ المبكر، والتدخل قبل تفاقم المشاكل. هناك تجارب ناجحة في الأردن والمغرب والإمارات بدأت بتفعيل هذا النموذج ضمن نطاقات محلية محددة وعندنا في السودان أثبتت تجربة الشرطة الشعبية نجاحا كبيرة و أنشأت لها الشرطة العامة أدارة منفصلة لها في هيكل الشرطة ونقلت لها كوكبة من الضباط أصحاب الكفاءة العالية والخلق القويم لتولي الجوانب الفنية من تدريب واشراف وخلافه و خلقت وظائف لمدنيين كمنسقين بين الشرطة والمجتمع فكانت تجربة ناجحة بكل المقاييس حيث اظهرت أن المجتمع قادر على تنظيم أمنه إذا مُنح المساحة والثقةوأظهرت أن الأمن يمكن أن يُدار بكفاءة خارج الجهاز الحكومي، خاصة في حماية المنشآت والمرافق الأمر الذي خفف العبء علي الأجهزة الأمنية واستفادت من من افرادها الذين كانوا يقومون بهذه الأدوار في عملها الأساسي مكافحة الجرائم وتطبيق القوانين وتقديم الخدمات الاخري التي يحتاجها المواطنين في تسيير حياتهم إضافة الي انها اي تجربة الشرطة الشعبية خلقت وظائف كثيرة لانها كانت تعمل بنظام التفرغ الكامل والجزئي، و زادت من الاحترافية ورفعت الحس الامني المجتمعي و
رغم ما شاب التجربة من فوضى وقصور أحيانًا، لكنها أثبتت فكرة مهمة: أن الناس حين يشعرون بأن أمنهم مهدد، يمكنهم بشكل تلقائي تنظيم أنفسهم لحماية أحيائهم، وحفظ امنها بشرط أن يكون ذلك في إطار قانوني ومؤسسي واضح.
فالشاهد انه لا يمكن للأمن أن يُبنى بقبضة الدولة وحدها، ولا أن يُترك للفوضى. الحل هو الشراكة الذكية: دولة تضبط الإطار العام، ومجتمع يبادر ويدير التفاصيل. هذا لا يعني إطلاق يد الميليشيات أو العشوائيات، بل بناء مؤسسات أهلية قوية، وخلق ثقافة من التعاون والتكافل واليقظة المجتمعية وتقليص وظائف الدولة لا يعني الانسحاب، بل التركيز. وعودة المجتمع إلى لعب دوره لا تعني الفوضى، بل النضج. الأمن الحقيقي لا يأتي من فوق، بل ينبع من داخل المجتمع حين يشعر الناس أنهم مسؤولون – لا مجرد رعايا ينتظرون التعليمات.
~واقع ما بعد حرب الكرامة~
افرزت الحرب علي الدولة ومؤسساتها والمجتمع بتدبير من دويلة الشر الامارات وربيبتها قوات الدعم السريع ، واقعا مريرا تمثل في تدمير شامل للبنية التحتية ومؤسسات الدولة خاصة أجهزتها الأمنية التي فقدت كثيرا من قواها البشرية والمادية من مقار ومعدات واليات كانت تؤدي بها ادوارها في حفظ الأمن واستقراره وادت الي نقص كبير في قوتها البشرية أما بالاستشهاد أو الأسر أو الهروب أو العجز بسبب إصابات العمليات ، هذا العجز أثر في قيام هذه الاجهزة بواجبها بالشكل المطلوب تجاه حفظ الأمن الذي تفاقم انفلاته بسبب انتشار السلاح وفقد كثير من القطاعات من أصحاب المهن البسيطة لاعمالهم بسبب توقف عجلة الإنتاج والاقتصاد فلجأ ضعاف النفوس منهم الي النهب والسلب مستغلين السيولة الأمنية التي افرزتها الحرب بغياب مؤسسات الدولة التي استهدفها العدوان في بداياته الأمر الذي ضاعف من مسئوليات الاجهزة الأمنية برغم ضعف امكانياتها، هذا الواقع يفرض علي المجتمع بل أصبح لزاما أن تتكامل وتتناصر جهود المجتمع مع جهود الجهات الرسمية لملء الفراغات الناتجة عن الحرب . الدولة من جانبها أعادت تأسيس الشرطة الشعبية تحت مسمي الشرطة المجتمعية وعينت ضباط وأفراد وتبقي الشق المدني وهذا يحتاج من المجتمع التقدم خطوة والمجتمع يحتاج الي قيادة ملهمة فاعلة يفتقدها الان ممن لهم سابقة تجربة في العمل المجتمعي ، أشير الي أن بعض المناطق في شرق النيل و مناطق الرميلة والقوز واللاماب قد شرعت في تنظيم نفسها بإشراف الشرطة باستدعاء من لهم سابق خبرة في العمل التطوعي والمجتمعي والانخراط في تأسيس لجان الشرطة المجتمعية.
هذا هو الحل الوحيد للواقع الذي افرزته الحرب فبدلا من لعن الظلام فليتحرك الجميع لايقاد الشموع بتفعيل وظائف المجتمع في مجال أمن المجتمع.
_والله الموفق_
~عقيد شرطة متقاعد/ عوض عبدالرحمن محمد خليفة~
