منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

مصعب عادل سليمان يكتب :  سيرة ومسيرة في ميادين العدالة : *مولانا هويدا علي عوض الكريم* *بين صمود القيادة ووفاء الزملاء*

0

مصعب عادل سليمان يكتب :

 

سيرة ومسيرة في ميادين العدالة :

*مولانا هويدا علي عوض الكريم*

*بين صمود القيادة ووفاء الزملاء*

 

كتب : المستشار مصعب عادل سليمان وزارة العدل السودانية

* القيادة في زمن العاصفة

* إعادة بناء الوزارة من الرماد

* المرأة الحديدية في ميادين العدالة

* صوت الوطن وسط الضجيج

* الانتقال والتكليف الجديد

* إرثٌ لا يُنسى

* كلمة أخيرة

في دروب العدالة ومسيرة العمل العام، تظهر بين الحين والآخر شخصيات تتجاوز حدود الواجب الوظيفي لتصبح رمزًا يُحتذى به في الوطنية والإخلاص والتجرد. من بين هذه الشخصيات النادرة، تبرز مولانا هويدا علي عوض الكريم، وكيلة وزارة العدل السابقة، التي شكّلت علامة فارقة في مسيرة الوزارة خلال أكثر المراحل قسوةً وتعقيدًا في تاريخ السودان الحديث.

تولّت مولانا هويدا قيادة وزارة العدل في لحظات كانت فيها البلاد تمر بأعنف أزماتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وسط حربٍ أتت على الأخضر واليابس، وتركت مؤسسات الدولة بين أنقاضٍ وتحدياتٍ لا تُحصى. ومع ذلك، استطاعت أن تصمد بثباتٍ نادر، وأن تعيد بناء جسور العدالة في وقتٍ كانت فيه البلاد تبحث عن طريقٍ آمن نحو القانون والنظام.

منذ اليوم الأول لتكليفها، لم تعرف مولانا هويدا طريقًا للراحة أو التردد. كانت مؤمنة بأن وزارة العدل ليست مجرد مؤسسة حكومية، بل هي الضامن الأول لسيادة حكم القانون، والمظلة التي تحتمي بها الدولة والمواطن على حد سواء. لم تكن الظروف مهيأة، ولم تكن الإمكانات متاحة، بل كانت البداية من الصفر تقريبًا — بلا مكاتب، ولا مركبات، ولا مستندات بعد أن طال الدمار أجزاء كبيرة من الوزارة بسبب الحريق الشهير الذي التهم محتوياتها.

في تلك اللحظة، كان أمامها خياران: الاعتذار أو المواجهة. لكنها اختارت الوطن. حتى حين كانت ابنتها على أبواب الوضع بعملية جراحية، لبّت نداء الوطن دون تردد قائلة: “لبيك وطني”. ومن تلك الكلمة، بدأت ملحمة عمل وصبر سطّرها التاريخ بماء الذهب.
شهدت وزارة العدل خلال فترة قيادتها نقلة نوعية في الأداء والتنظيم رغم غياب المقومات المادية. فقد أعادت هيكلة الإدارات، ونظّمت العمل القانوني وفق رؤية مؤسسية تقوم على الشفافية والانضباط المهني. وحرصت على إعادة بناء الملفات والسجلات القانونية التي فُقدت، وعلى إعادة الثقة بين الوزارة ومؤسسات الدولة الأخرى.

لم تكن مجرد وكيلة، بل كانت مهندسة حقيقية لنهضة الوزارة. قادت فرق العمل بنفسها، وتابعت الملفات لحظة بلحظة، ووقفت على التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة. كانت حاضرة بين موظفيها ومستشاريها، تستمع لهم، وتشد من أزرهم، وتدعم كل جهد صادق لخدمة الوطن.
أطلق عليها زملاؤها لقب “المرأة الحديدية”، ولم يكن اللقب مبالغة. فقد كانت حازمة في المواقف، رقيقة في التعامل، عادلة في القرارات. تميزت بنزاهةٍ يشهد بها القاصي والداني، وبشجاعةٍ في قول الحق حتى حين يصمت الآخرون. لم تعرف المجاملة في الحق، ولم تخضع لأي ضغطٍ سياسي أو إداري حين يتعلق الأمر بمبادئ العدالة.

في عهدها، شهدت إدارات الوزارة – وعلى رأسها إدارة العون القانوني – طفرة غير مسبوقة. إذ توسعت خدمات العون القانوني لتشمل الفئات المعسرة والضعيفة، وأُنشئت أقسام متخصصة حُدّدت مهامها واختصاصاتها بدقة، بما يعزز مبدأ وصول الجميع إلى العدالة دون تمييز.

“شهد لها زملاؤها بأنها كانت الأخت الكبرى، والمعلمة، والقائدة. تفتح أبواب مكتبها للجميع، تستمع وتوجه وتعين، لا تردّ أحدًا قصده الحق أو طلب العدل.”
لم تكن هويدا مجرد مسؤولة تؤدي عملاً إداريًا، بل كانت ضميرًا حيًا للوطن في أحلك لحظاته. حملت هموم الدولة والمواطنين على كتفيها، واجهت الحرب بانضباطٍ إداري وأخلاقي، وأعادت الروح لمؤسسة العدل التي كادت أن تنهار تحت وطأة الظروف.

عرفها الجميع بابتسامتها الهادئة التي تخفي وراءها صلابةً لا تُقهر. كانت حاضرة في كل اجتماع، وفي كل أزمة، وفي كل لحظةٍ تحتاج فيها البلاد لصوتٍ عاقلٍ ومسؤول. لم تتوانَ عن أداء واجبها حتى وهي تواجه تحديات شخصية وصحية وأسريّة، فكانت نموذجًا للمرأة السودانية المكافحة، التي توازن بين دورها المهني والإنساني بروحٍ سامية.

الانتقال والتكليف الجديد

ومع صدور قرار الإعفاء وتعيين مولانا علي خضر خلفًا لها، جاءت ردود الفعل من زملائها في وزارة العدل لتكشف عن حجم المحبة والتقدير الذي تكنّه لها المؤسسة بأكملها. لم يكن الحديث عنها مجرد مجاملة، بل شهادة نابعة من قلوبٍ عرفتها عن قرب، وعملت معها في خندقٍ واحد.

عبّر المستشارون عن امتنانهم لما قدّمته من جهد، وعن فخرهم بما حققته من إنجازات في أحلك الفترات التي مر بها السودان. وأجمعوا على أنها أدت التكليف كما ينبغي، وأنها ستظل صفحة مضيئة في تاريخ وزارة العدل. كما تمنّوا التوفيق لمولانا علي خضر، الذي وصفوه بأنه خير خلفٍ لخير سلف، وأنه أهلٌ لحمل الراية ومواصلة المسيرة بنفس الروح والمسؤولية.

ستظل مولانا هويدا علي عوض الكريم واحدة من أبرز الشخصيات التي تركت بصمة لا تُمحى في سجل وزارة العدل السودانية. فكل من عمل معها يشهد بأنها لم تكن تسعى لمجدٍ شخصي أو منصبٍ دائم، بل كانت تسعى إلى بناء مؤسسةٍ تحيا بعد رحيلها. وقد نجحت في ذلك.

تركت وراءها إرثًا إداريًا وتنظيميًا متينًا، وفريقًا من الكفاءات المؤهلة التي تربت على يدها. كما تركت قيمًا ومبادئ أصبحت جزءًا من هوية الوزارة: الصدق، التجرد، العدالة، والانتماء للوطن.

هذه السيرة ليست مجرد سردٍ لإنجازاتٍ رسمية، بل شهادة على أن في السودان من لا يزالون يؤمنون بأن العدالة رسالة، وليست مهنة. وأن العطاء للوطن لا يحتاج إلا إلى ضميرٍ حيٍّ وعزيمةٍ صادقة.

“سيذكرها التاريخ كواحدة من نساء السودان اللواتي واجهن العاصفة بصبرٍ وابتسامة، وتركْن في قلوب من عرفوهنّ أثراً لا يُمحى.”
كلمة أخيرة

من موقع المستشارين والعاملين في وزارة العدل، ومن قلوب كل من عاصر تلك المرحلة، نرفع لمولانا هويدا علي عوض الكريم خالص الدعاء أن يتقبل الله منها ما قدمت من جهدٍ وجهادٍ في سبيل الوطن والعدالة، وأن يجعل ما قدمته في ميزان حسناتها. كما نبارك لمولانا علي خضر هذا التكليف، ونسأل الله أن يعينه ويسدد خطاه في مواصلة المسيرة على ذات النهج من الإخلاص والانتماء.

فالتاريخ لا يخلّد المناصب، بل يخلّد المواقف. ومولانا هويدا تركت لنا موقفًا يُدرّس في الوفاء، والالتزام، والوطنية. ومهما تعاقبت الأيام، سيبقى اسمها محفورًا في ذاكرة العدالة السودانية، رمزًا للثبات في زمن الانهيار، وللأمل في زمن اليأس.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.