خبر وتحليل – عمار العركي *أخيـرًا… واشنطن دخلـت الضُـل*
خبر وتحليل – عمار العركي
*أخيـرًا… واشنطن دخلـت الضُـل*

* لم تكن تصريحات وزير الخارجية الأمريكي ماركو ربيو حول السودان مجرد تكتيك سياسي، ولا مناورة دبلوماسية مخادعة، بل تحوّلات أمريكية فرضتها مجموعة من المعطيات والمستجدات الميدانية والسياسية. ما قاله ربيو يمثل أوضح إدانة صادرة حتى الآن لدور خارجي في تمويل وتسليح المليشيا، ويكشف في الوقت ذاته عن ضيق واشنطن من حليفتها داخل “الرباعية”.
* هذا التحول لم يأتِ بمعزل عن صمود الشعب السوداني وقواته، وإدارة الحرب سياسيًا وفق استراتيجية مدروسة تتخطى ارتكازات ودفاعات “الذيل” وتتجاوزه للوصول إلى “رأس الحيّة”. وكانت البداية – ولأول مرة – برغبة أمريكية في اللقاء مع “البرهان”. هذا اللقاء وما تبعه من إفرازات وتناسل الأحداث وثبات الموقفين العسكري والسياسي السوداني ووحدتهما وتماسكهما، أحدث توازنًا حقيقيًا على الأرض رغم التخطيط العسكري والسياسي المسبق للمليشيا والدعم الخارجي المقدم لها.
* إضافة إلى ذلك، لعب الرأي العام العالمي المتنامي ضد إرهاب المليشيا وحليفها الاستراتيجي الإمارات دورًا حاسمًا في إعادة النظر والتحول وتعديل اللهجة الأمريكية، مضافًا إلى ذلك كثير من المخالفات الإماراتية والمتاعب والأضرار المتراكمة التي طالت المصالح الأمريكية بسبب الإمارات، التي تعمل في كثير من الأحيان بشكل أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة في ملفات تُعد خطوطًا حمراء، خاصة التقارب والتعاطي الإماراتي مع روسيا والصين في التسلح والاستثمار والطاقة.
* وزارة الخارجية السودانية رحّبت بهذه التصريحات، معتبرةً أنها بداية حقيقية لمعاملة المليشيا الإرهابية بما تستحقه من محاسبة، ومساءلة كل من ساعدها أو زودها بالسلاح أو سمح باستخدام أراضيه لإدخال المرتزقة والدعم العسكري.
* وأكدت الخارجية في بيانها الرسمي أن تصنيف المليشيا كمنظمة إرهابية، وإلقاء الضوء على الدعم الإقليمي والدولي لها، يمهّد الطريق لتصحيح وجهة نظر المجتمع الدولي، ويفصل بين جيش نظامي وقوات دستورية وبين مليشيا قبلية خارجة عن القانون. كما أشار الوزير محي الدين سالم إلى أن تصريحات ربيو أرسلت رسالة قوية لبقية الدول المعنية بالملف السوداني بأن الوقت قد حان لوقف نزيف الدماء ومحاسبة المليشيا، وهو ما يعكس وضوح الموقف الأمريكي الجديد الذي استند إلى الوقائع الميدانية ورفض المساواة بين المليشيا والجيوش النظامية.
* بيان الخارجية، وبذكاء دبلوماسي، أرسل رسالته لأمريكا والمجتمع الدولي بأن هذه التصريحات تأخرت كثيرًا، وربط ذلك بالتأخر والتساهل في تطبيق قراري حظر السلاح وفك حصار الفاشر، حتى وقعت الجرائم والانتهاكات من قبل المليشيا التي لم تفك الحصار وبالسلاح المحظور.
* في المقابل، كان البيان الأوروبي المشترك الصادر عن وزراء خارجية أكثر من 25 دولة، والذي أعدته بريطانيا، خطوة بريطانية لإغراق المليشيا وانتشال الإمارات من أي اتهام مباشر. البيان كان عبارة عن مشروع أداة للتدويل تحت مظلة “التدخل الإنساني” وفق البند السابع، مع تحميل المليشيا الانتهاكات دون المساس بالحليف الإماراتي.
* وتكشف متابعة تصريحات الخارجية البريطانية وتقارير الـBBC عن تطابق واضح بين الخطاب الإعلامي والسياسي، ما يعكس إدارة بريطانيا للأزمة بازدواجية تجمع بين الظهور كحامٍ للمدنيين وصوت إنساني، وبين الحفاظ على مصالحها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
* بعبارة أدق، ما كان يُنظر إليه سابقًا كتقاطع مصالح وتبادل أدوار بين واشنطن ولندن، بدأ يتحوّل تدريجيًا إلى انقسام في الرؤية والتقدير. فبينما تمضي بريطانيا – مدعومة من العواصم الأوروبية – في اتجاه التدويل والتدخل الأممي، بدا في تصريحات “ماركو” أن واشنطن أصبحت أكثر حذرًا وميلًا نحو احتواء الصراع إقليميًا عبر مسار سياسي يعيد التوازن ولا يفتح الباب أمام وصاية دولية جديدة.
* تصريحات وزير الخارجية الأمريكي عبّرت بوضوح عن هذا التباين، إذ انتقد – بشكل غير مباشر – التحركات البريطانية – الأوروبية، واعتبر أن أي “خطوات متسرعة في مجلس الأمن قد تعقّد الوضع الميداني وتضعف فرص الحل السوداني – السوداني”.
*خلاصة القول ومنتهاه:*
* الساحة الأوروبية – الغربية تشهد أول ملامح انقسام حقيقي حول السودان، بين محور بريطاني يسعى لفرض معادلة “التدويل والسيطرة”، ومحور أمريكي بدأ يدرك خطورة الانجرار وراء هذا المسار في ظل التحولات الميدانية التي أعادت التوازن لصالح الدولة السودانية وجيشها.
لم يعد التردد الأمريكي في حماية مصالحها المتضررة ممكنًا في ظل وقائع الأرض وصمود الشعب وقواته المسلحة، لتدخل واشنطن المشهد متأخرة نسبيًا، لكنها حاسمة في إعادة رسم حدود النفوذ الغربي، وبصورة غير مباشرة تفتح نافذة غير مسبوقة للسودان لاستثمار الانقسام الغربي لصالحه.
