البُعد الآخر د. مصعب بريــر *أكاديميون مع وقف التنفيذ: جامعاتنا مقابر للعقول ومصانع للورق الميت..!*
البُعد الآخر
د. مصعب بريــر
*أكاديميون مع وقف التنفيذ: جامعاتنا مقابر للعقول ومصانع للورق الميت..!*

تُعدّ الجامعات في أي أمة قاطرة الفكر ومحرّك النهضة ومركز الثقل الحضاري، غير أنّ المشهد الأكاديمي الراهن يضعنا أمام مفارقة موجعة: رفوف مكتبات مثقلة بالأبحاث، وأسواق خاوية من الابتكارات المحلية. هنا، يأتي مقال الدكتور إسحاق ياي أسييدو ليضع إصبعه على الجرح الغائر في جسد التعليم العالي، متسائلاً بجرأة عن جدوى سباق “عدّ المنشورات” في وقت تعجز فيه مجتمعاتنا عن إيجاد حلول عملية لأبسط مشكلاتها الزراعية والتقنية والصناعية. فالقيمة الحقيقية للعلم لا تُقاس بعدد الاقتباسات، بل بمقدار الأثر الملموس الذي يغيّر حياة الناس ويعالج أزماتهم اليومية.
إن التحول المنشود يبدأ من مراجعة صورة الأستاذ الجامعي ودوره؛ من ناقل للمعرفة ومُعيد تدويرها في مجلات دولية بحثاً عن ترقية شخصية، إلى صانع معرفة ومنتج حلول يبني وطنه. هذا التحول لا يتحقق إلا بثورة في العقلية والمنهج، قوامها الإيمان بأن العلم رسالة تنموية قبل أن يكون سلماً وظيفياً. فالمعادلات الرياضية يجب أن تنتهي في آلات تحصد وتنتج، والأبحاث الكيميائية ينبغي أن تتحول إلى تقنيات لتنقية المياه أو تصنيع الدواء، لا أن تبقى حبيسة الصفحات.
وأولى خطوات هذا المسار تكمن في كسر قيود منظومة “انشر أو اندثر” التي استنزفت العقول في سباق محموم نحو “الهيبة الأكاديمية” على حساب “الهدف القومي”. لقد آن الأوان ليُدرك الأكاديمي أن تفوقه الحقيقي يتجلى حين يرى نتاج علمه يعمل في الحقول والمصانع والمستشفيات. فالاستمرار في استيراد التكنولوجيا، بينما يكتفي المتخصصون بتدريس نظرياتها، ليس سوى شكل من أشكال العجز الفكري الذي يكرّس التبعية. المطلوب هو الانتقال من ملء الصفحات بالكلمات إلى ملء المختبرات بالنماذج الأولية، بحيث تمتلك كل كلية وكل قسم بصمة مادية واضحة في الاقتصاد الوطني.
ولتحقيق هذه القفزة نحو الابتكار، لا بد من إعادة صياغة القوانين والمعايير التي تحكم العمل الأكاديمي. يجب أن تصبح الترقية مكافأة على “الأثر” لا على “الكم”، وعلى الحلول لا على العناوين. فاحتساب براءات الاختراع، والشركات الناشئة المنبثقة من الجامعات، والمشروعات التي تعالج مشكلات محلية حقيقية، هو المحرك الفعلي لتحرير الطاقات الإبداعية. حين يشعر الأستاذ أن اختراعاً بسيطاً يخدم فلاحاً في قريته يزن أكثر من عشر أوراق منشورة في مجلات لا يقرؤها أبناء وطنه، ستتحول الجامعات من مقابر للعقول إلى مصانع للأمل.
بعد اخير :
خلاصة القول: إن المستقبل لا ينتظر المتفرجين، وإفريقيا – وكل الدول الطامحة للنهوض – لا تملك رفاهية الاكتفاء بالنظريات. الطريق إلى السيادة يبدأ من المختبر الجامعي، والشجاعة الحقيقية اليوم ليست في حفظ المراجع واقتباس العظماء، بل في الجرأة على أن نصنع عظماءنا بأيدينا.
وأخيرًا، فلنجعل من كل رسالة ماجستير بذرة منتج، ومن كل أطروحة دكتوراه حجر أساس لمصنع، فالتاريخ لا يخلّد من نشروا أكثر، بل من تركوا أثراً أطعم جائعاً، أو داوى مريضاً، أو أنار درب أمة بأكملها.
ونواصل… إن كان في الحبر بقية، بمشيئة الله تعالى.
﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾
حسبنا الله ونِعم الوكيل
اللهم لا تُسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، يا أرحم الراحمين.
#البُعد_الآخر | مصعب بريــر
الاثنين | 22 ديسمبر 2025م
musapbrear@gmail.com
