*جريدة بريطانية: كيف تطور النــهب المسلح في السودان؟*
جريدة اندبندنت البريطانية
الانتهاكات الموثقة بحق المدنيين ضاعفت من أثر الحرب عليهم وأفقدتهم الثقة في الحكومة والشرطة والقانون
منذ بداية الحرب السودانية في أبريل (نيسان) الماضي بين قوات الجيش بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، وقوات “الدعم السريع” بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تزايدت حوادث النهب المسلح بمعدل متسارع في العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث، الخرطوم وبحري وأم درمان، ومدن إقليم دارفور وبعض المناطق الأخرى التي شهدت حالات من الفوضى تمثلت في عمليات النهب للمحال والشركات والمصارف ومخازن السلع ومنازل السودانيين، وفي حين وجهت اتهامات لعناصر من قوات “الدعم السريع” فإن عصابات مسلحة من “النقرز” أيضاً وجهت لها التهم لضلوعها في عمليات النهب.
عدم كفاية التدابير الأمنية وغياب الشرطة ورجال الأمن أثناء الحرب مكنت هذه الجهات، وبعضها مزود بأسلحة نارية وبيضاء بحسب ما كشفت فيديوهات مسجلة أثناء الاعتداءات وأخرى نشرها أفراد هذه القوات أنفسهم على وسائل التواصل، من الاعتداء على عدد كبير من السكان، واحتجاز بعضهم تحت تهديد السلاح لترهيبهم من أجل الإفصاح عن مكان مدخراتهم الثمينة في المنزل.
تجربة التعرض للنهب والاعتداء العنيف ضاعفت من أثر الحرب، وأفقدت السودانيين الثقة في الحكومة والشرطة المنوط بها الحفاظ على القانون والنظام. وأصبحت الأحياء السكنية مجتمعات محفوفة بالأخطار وعدم الثقة، إذ شملت التحولات تغيرات في حياتهم الشخصية وسلوكهم وقلقاً حول التدابير الأمنية لمنع الإيذاء وتوفير الحماية.
بالمقارنة مع الجرائم الأكثر شيوعاً مثل سرقة الأموال النقدية والممتلكات، فإن النهب المسلح لم يحظ من قبل باهتمام كبير إلا باعتباره جريمة عابرة على رغم أنها شهدت ارتفاعاً كبيراً في عدد الحالات والخسائر خلال هذه الحرب، وهي خسائر أكبر مما حدث من قبل أثناء وجودها السابق خلال الحرب الأهلية في إقليم جنوب السودان، واستمرارها في دارفور أيضاً.
اتهامات متبادلة
عقب انفصال جنوب السودان واشتداد حدة القتال بين النظام السابق الحاكم في السودان والحركات المسلحة في دارفور، اتهمت هذه الحركات بأن هدفها تحول من قضايا مناطقهم إلى تنفيذ عمليات نهب واسعة استهدفت مواطني المدن، وبدورها اتهمت “حركة العدل والمساواة” و”حركة تحرير السودان” ميليشيات تابعة لنظام البشير “الجنجويد” بأنها هي التي تنفذ أعمال النهب، وصرحت بأن “الحركات حملت السلاح بسبب المظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواقعة على المواطنين عموماً وعلى مواطني الهامش السوداني خصوصاً”. وظلت عمليات النهب المسلح تتكرر لسنوات عدة في الطرق التي تربط مدن ولايات دارفور المختلفة بالحدود الليبية والتشادية. ونقل عن شهود عيان أن مسلحين يستقلون سيارات دفع رباعي يوقفون الشاحنات التجارية وينهبونها ثم يلوذون بالفرار.
كما شهدت ولايات شرق السودان منذ عام 2013 مع اندلاع احتجاجات في الإقليم ضد النظام، تزايداً في عمليات النهب المسلح على الطريق القومي الذي يربط مدن الشرق من بورتسودان وكسلا بالخرطوم، إضافة إلى اختراقات حدودية من قوات منسوبة إلى دول الجوار، استمرت لسنوات عدة متزامنة مع توترات أمنية على الحدود. وتنشط من وقت لآخر أيضاً تجارة البشر والسلاح وعمليات الاختطاف وأعمال تخريب الممتلكات العامة.
وفي أغسطس (آب) 2021 وقع اشتباك بين قوة تابعة لـقوات “الدعم السريع” مع تشكيل تابع لإحدى الحركات المسلحة على بعد نحو 150 كيلومتراً غرب مدينة الدبة شمال السودان. وصدر بيان من الشرطة أوضح أن “شاحنة على متنها صهريج وقود تابعة لـ(الدعم السريع) كانت في طريقها للارتكاز في عمق الصحراء على بعد نحو 200 كيلو متر من الدبة، تعرضت لعملية نهب من مجموعة مسلحة تابعة لإحدى الحركات الموقعة على اتفاق السلام بجوبا في أكتوبر (تشرين الأول) 2020”.
تفاقمت المشكلات الأمنية وعمليات النهب التي استهدفت المنظمات الإقليمية والدولية في دارفور، وتعرض مقر “بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي المشتركة في دارفور (يوناميد) لعمليات نهب واعتداء في ديسمبر (كانون الأول) 2021، وتبعت ذلك حادثة نهب لمستودع برنامج الأغذية العالمي خلال الشهر ذاته في الفاشر من جانب مجهولين. وعلى أثر تلك الأحداث أعلنت وزارة الخارجية السودانية في فبراير (شباط) 2022 “تشديد السلطات على عدم التساهل مع أية أنشطة تقودها الحركات المسلحة غير الموقعة على اتفاق السلام مثل النهب والسلب”.
وفي الخرطوم تعددت حوادث تعرض الدبلوماسيين وموظفي المنظمات الدولية للنهب المسلح، ومنها تعرض دبلوماسيين بريطانيين (رجل وامرأة يعملان موظفين بسفارة بريطانيا بالخرطوم) لحادثة نهب مسلح بغابة السنط في يوليو (تموز) 2022، وغير ذلك من الحوادث.
قيمة النجاة
ما تعيشه الخرطوم من انعدام الأمن في ظل الحرب يتساوى فيه نهارها بليلها. فما إن يرخي الليل سدوله حتى يخيم ظلام لا يقطعه سوى ضوء خافت منبعث من شاشات الهواتف المحمولة التي تستميت في المحافظة على التواصل الطفيف بين من تقطعت بهم السبل داخل الديار والنازحين منها، بينما يدوي صوت طلقات نارية تطلقها قوات “الدعم السريع”، وفي الأثناء تنبعث من السماء مع أزيز الطائرات الحربية انفجار دانات المدافع التي يطلقها الجيش على القوات المختبئة في المنازل.
في هذا الطقس المرعب الذي ظل يتكرر منذ ما يزيد على ستة أشهر، لا تقدر قيمة النجاة مقابل كل ما يملك الشخص في تلك اللحظة بثمن، لذا كانت مقاومة كل من تطلب منهم سياراتهم وأموالهم وذهبهم ومقتنياتهم الثمينة، ضعيفة. وقد طاولت أعمال النهب كثيراً من المنازل ولم تستثن المستشفيات والمتاجر والمخابز وغيرها. ومن بعضها سجلت فيديوهات تقول فيها عناصر من “الدعم السريع” إن “كل ما تحصلوا عليه من منازل المواطنين وغيرها هي غنائم حرب”.
تعدت عمليات النهب السودانيين وطاولت جنسيات أخرى، فقد ذكرت صحيفة “ذا هندو” الهندية في تقرير لها، تصريحاً لتوماس فارغيز أحد مواطني ولاية كيرالا الهندية الذي كان يعمل ويقيم رفقة أسرته في السودان منذ نحو 16 عاماً وتم إجلاؤه ضمن ما لا يقل عن 300 من سكان كيرالا من الخرطوم والمناطق المجاورة في إطار المهمة.
قال فارغيز “كانت عمليات السطو المسلح التي يقوم بها السودانيون المحليون أكثر صعوبة من القتال. وكثيراً ما يقتحمون مباني المكاتب والمباني التي يقيم فيها الأجانب ويطالبون بالمال والطعام والأشياء الثمينة تحت تهديد السلاح”.
وأضاف “لا يمكننا أن نلومهم على عمليات السطو تحت تهديد السلاح لأن الوضع في السودان الذي مزقته الحرب سيئ للغاية. ليس لديهم أية وسيلة للحصول على الغذاء لأن معظم محلات السوبرماركت ومحلات البقالة إما تعرضت للنهب أو للتدمير. وتطلب العصابات المسلحة الذهب أو الدولارات أولاً ثم المواد الغذائية”.
وقالت منظمة العفو الدولية في تقريرها الأخير، في أغسطس الماضي، والذي ركز على الخرطوم وغرب دارفور، إن “الانتهاكات الموثقة مثل الهجمات التي تستهدف المدنيين، والهجمات على البنية التحتية الإنسانية، والاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي، والنهب، ترقى إلى جرائم حرب”.
جذور النهب
سيُعرف هذا العام (2023) إلى الأبد ويقترن بعام آخر خلده التاريخ هو “سنة ستة” (1306هـ)، التي توافق (1888- 1889)، وإن كانت سنة مجاعة لعوامل سياسية واجتماعية وبيئية، فإنها نتيجة مباشرة للثورة المهدية عام 1885 التي انتفضت ضد الحكم التركي – المصري. وواجهت دولة المهدي مصاعب اقتصادية وسياسية وسوء إدارة أوردت البلاد موارد شتى. وأحل خليفة المهدي عبدالله التعايشي في ما أحل من ممارسات تتعارض مع مبادئ دولة “الخلافة الإسلامية” التي تبنتها دولة المهدية، التعدي على حقوق المواطنين وممتلكاتهم والتجار الأجانب وأسرهم. ويرى كثيرون أن ما تقوم به قوات “الدعم السريع” يشبه إلى حد كبير ما قام به جنود المهدية الذين كانوا يعرفون باسم “الجهادية” وهم في الأصل أرقاء ضمهم المهدي إلى جنوده.
تعود ممارسة النهب المسلح التي شهدها غرب السودان وخصوصاً إقليم دارفور من قبل إلى نظام اجتماعي قديم ساد في فترة من تاريخ السودان كان يطلق عليه “الهمبتة”، وهي لفظة من لهجة عرب غرب السودان تعني نهب وسلب الإبل باستخدام القوة. وتعد من ضروب الفروسية إذ يتميز “الهمباتي” بالشهامة والنخوة ويكون محل فخر وتقدير أهل القبيلة وهو يسرق من الغني ليعطي الفقير. ويرى كثيرون أن ظاهرة النهب المسلح بشكلها الحالي حلت محل “الهمبتة”.
خطورة الظاهرة
في كتابه “أم دورور وثقافة السلام” قال معاش محمد دردوق، “ظلت ظاهرة (الهمباتة) مفخرة زماننا ونحن نتحدث عنها ونرويها جيلاً لجيل. تلك البطولات الخارقة التي سجلها (الهمباتة) في تلك الحقبة من تاريخ السودان ومنهم ود ضحوية، وطه الضرير، وعوج الدرب، وغيرهم كثر، أثروا الساحات ببطولات خارقة وكرم فياض، وقالوا أفصح الشعر في النساء والإبل والخيل والسيف وفنون القتال”.
وأضاف “يتحدث السودانيون عن تلك الظاهرة بكل فخر، لكراهية الجبن والاعتقاد أن الفروسية تقود للسلام، ولكن يلزم التفريق بينها والجريمة، وهنا تتداخل الأمور وتتشابه المفاهيم ويختلط الأمر بين الجريمة والفروسية، ولأن الأخيرة في ذلك الزمان كانت لها السيطرة العاطفية والعقلية في نفوس الناس انعدمت صفة الجريمة وأصبحت فروسية، لا سيما أن (الهمباتة) كانوا يأخذون أموال الجبناء من الناس ويقومون بإعادة توزيعها على الفقراء والنساء ذوات الحاجة ممن يعرفونهم، ثم جاءت عصابات النهب المسلح وبدأت بالطريق نفسه بدعوى نصرة المهمشين، لكنها أصبحت لا تفرق بين ثري وفقير”.
جاء في متابعات الباحث في التراث الشعبي السوداني الطيب محمد الطيب لهذه الظاهرة، أنها “جاءت في أعقاب الحروب التي كانت تنشب بين القبائل أواخر عهود السلطنة الزرقاء على أثر ضعف هيبتها، وذلك بسبب تنازع أمراء دولة الفونج على العرش وتسلط الوزراء من قبائل الهمج على زمام الحكم، ونتيجة تردي المجتمع في الجهل بالدين وضعف الواعز الديني راحت القبائل تغير على بعضها تسلب وتنهب، إذ لعب النظام الاجتماعي والاقتصادي وتفشي الفساد دوراً كبيراً في مدى انتشار وحجم وخطورة الظاهرة”.
وأضاف “انحسرت هذه الظاهرة بعد استقلال السودان عام 1956، ولكن لا تزال هناك ممارسات في أقاصي بوادي غرب السودان”.
ولأنها أنتجت شعراً شعبياً كثيفاً، فقد استأثرت “الهمبتة” باهتمام الباحثين بعد ذلك، وللمرأة السودانية وبخاصة البدوية حضور كبير في أشعار “الهمباتة”، حيث يتغنى الشعراء بجمالها ورجاحة عقلها. وفي هذه الأيام ذاع صيت أهزوجة شعبية يرددها أفراد “الدعم السريع” وهي من تراث قبيلة “الرزيقات” تقول باللهجة المحلية “عشان أم قرون بركب الحديد بوكسي”، وتعني “لأجل الفتاة ذات الشعر الطويل، تجلب السيارات”.
فوارق الموروثات
أوضحت الصحافية كوثر علي، أن “مجتمع (الهمباتة) كان يعتقد أن لديه مهمة إنسانية تتمثل في دعم الفقراء، واقتصادية إذ كان بيع المسروقات ينعش أسواق الإبل، ويستفيد من يقومون بنهبها ومن يقومون ببيعها وهم فئة مسوقين يطلق عليها اسم (العملا)”.
وتابعت أن “هناك خلافاً كبيراً بين ممارسات النهب المسلح الحالية التي تحاول خلق واقع خيالي أشبه بواقع (الهمباتة) قديماً ومحاولات ادعاء الكرم والشهامة بينما يقوم ممارسو الظاهرة بكثير من الجرائم ضد القانون والأعراف الاجتماعية”.
وأضافت “لفت تصوير عمليات النهب وبثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتفاخر بها إلى أن هناك فوارق كبيرة بين موروثات من يقومون بها على أنها شيء طبيعي جالب للفخر، وبين من يستنكرونها لأنها لا تمت لأعرافهم ومجتمعاتهم بصلة”.