لماذا تتشبث مصر بجولة مفاوضات أخيرة حول سد النهضة؟
على رغم فشل جولتي المفاوضات الأولى والثانية بين مصر والسودان وإثيوبيا في إحراز تقدم يذكر بالتوصل لاتفاق حول ضوابط التخزين والتشغيل لسد النهضة، أكدت القاهرة اعتزامها خوض جولة ثالثة في غضون شهر أكتوبر (تشرين الثاني) المقبل، داعية أديس أبابا إلى مزيد من الجدية في الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم للأطراف الثلاثة.
وجاء إعلان إثيوبيا الانتهاء من الملء الرابع للسد وتخزين نحو 41 مليار متر مكعب من المياه ليطرح سؤالاً حول الهدف من استمرار مصر في تلك المفاوضات في ظل مراوغات إثيوبية ملحوظة ومحاولات لفرض الأمر الواقع بعدم الاعتداد بمواعيد وكميات التخزين سابقاً، وهي المحاولات التي قد تمتد لطريقة تشغيل سد النهضة ليكون قراراً أحادي الجانب.
“اندبندنت عربية” استطلعت آراء متخصصين في ملف المياه للتعرف على النتائج التي تسعى مصر إلى تحقيقها من تلك المفاوضات، في الوقت الذي يرى فيه مراقبون أن تلك الجلسات مجرد “إضاعة للوقت” ليس أكثر من ذلك.
في 13 يوليو (تموز) الماضي التقى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد واتفقا على بدء مفاوضات عاجلة للانتهاء من الاتفاق بين مصر وإثيوبيا والسودان حول ملء سد النهضة وقواعد تشغيله خلال أربعة أشهر، مع تعهد أديس أبابا عدم إلحاق ضرر بالقاهرة والخرطوم أثناء ملء السد خلال العام الهيدرولوجي 2023 – 2024.
خطر مؤكد
المتخصص في الجيولوجيا والموارد المائية عباس شراقي أكد أن استمرار مصر في المفاوضات مع الجانب الإثيوبي هدفه التوصل إلى وضع قواعد لعمليات ملء وتشغيل السد، مشيراً إلى أن الملء الرابع جزء من مراحل، وليس الأخير، فهناك خامس وسادس، تليه مرحلة التشغيل.
ولفت شراقي إلى أن السد طوال الوقت سيكون في حالة ملء ثم تفريغ لتوليد الكهرباء، وهو أمر يختلف باختلاف السنوات المطيرة عنه في سنوات الجفاف، وكذلك حالة الفيضان، وهي أمور تحتاج لوضع قواعد منظمة بمشاركة الدول الثلاث.
وأكد المتخصص في الجيولوجيا والموارد المائية أن مصر والسودان تحرصان على وضع ضوابط لعمل سد النهضة حتى تتفادياً ما ينشأ من مشكلات في حال رغبة إثيوبيا أو دول أخرى في إقامة سدود على نهر النيل، متابعاً “لو لم نتوصل إلى اتفاق للملء والتشغيل في ملف السد سنكون أمام سياسة فرض الأمر الواقع وسيتكرر الأمر مع كل الدولة الراغبة في إقامة سدود لتوليد الكهرباء، وهو أمر لا يليق بمصر وهي شريك في هذا النهر”.
وأضاف شراقي أن مصر دولة زراعية بالأساس، وكل ما يخص مياه الري يجب أن يكون معلوماً للدولة المصرية، وكذلك كميات تخزين المياه في سد النهضة وحجم تأثر حصتها من المياه بهذا التخزين، وهي أمور حيوية ومن غير المقبول أن تكون معلومات بهذه الأهمية غائبة عنها.
وحول ما تم تخزينه بنهاية الملء الرابع للسد أكد عباس شراقي أن حصة مصر والمقدرة بـ55 مليار متر مكعب سنوياً، احتجز منها هذا العام 24 مليار متر مكعب في سد النهضة، متوقعاً أن يعود لمصر جزء من حصتها المحتجزة بنحو 50 في المئة، وهي 12 مليار متر مكعب بعد تشغيل توربينات السد، والتي هي أيضاً معلومات مصيرية لمصر والسودان ولا يعلمها سوى الجانب الإثيوبي فقط.
خطط بديلة
وأشار المتخصص في الجيولوجيا والموارد المائية إلى أن السد العالي كان له الفضل في عدم تضرر بلاده بشكل كبير من أزمة سد النهضة قائلاً “لولاه لكان حال مصر أسوأ من السودان”، لافتاً إلى أن الدولة تبنت مشروعات عدة للحفاظ على احتياط المياه في السد العالي، ومنها مشروع “تبطين الترع” وإعادة الري بمياه الصرف الزراعي مع التوجه لترشيد استهلاك المياه بشكل عام، بجانب التوسع في محطات معالجة المياه لتفادي التأثيرات السلبية للسد.
وبدأت وزارة الري المصرية في نهاية 2020 تنفيذ المرحلة الأولى من المشروع المخطط أن يجرى على مرحلتين، وأن يشمل تأهيل ترع بإجمالي 20 كيلومتراً في 20 محافظة، بهدف توفير خمسة مليارات متر مكعب من المياه، على أن ينتهي المشروع بالكامل عام 2024، بكلفة 80 مليار جنيه، وفق تصريحات للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عام 2021.
وطالب شراقي، المفاوض المصري بالمطالبة بتخفيض سعة السد من المياه والاكتفاء بـ41 مليار متر مكعب بدلاً من 74 مليار متر مكعب، نظراً إلى الانهيارات الأخيرة للسدود في إثيوبيا وليبيا، وغيرها، مشيراً إلى أن أديس بابا هي مركز للزلازل والفيضانات، مما يهدد بانهيار السد. وكذلك ضرورة المطالبة بعودة المراقبين والأطراف الدولية بشكل فاعل لحضور جلسات التفاوض، ووقف المفاوضات إذا ما استمر التعنت الإثيوبي بجانب اللجوء لمجلس الأمن لوقف التوسع في سد النهضة باعتباره ملفاً “أمنياً” وقضية وجود وليس “قضية مياه” لكثرة الأخطار الجيولوجية في هذه المنطقة، بحسب المتخصص في الجيولوجيا والموارد المائية.
وعن وجود مراقبين في المفاوضات قال عباس شراقي إن إثيوبيا طلبت عدم مشاركة المراقبين بالرأي خلال المفاوضات، ثم طالبت باستبعادهم من الحضور في مرحلة لاحقة، وهو ما يؤكد التعنت الإثيوبي في الوصول لحل يرضي الدول الثلاث.
وزير الخارجية المصري سامح شكري أكد رفض مصر أية إجراءات أحادية تتعلق بسد النهضة. وأضاف خلال إلقائه بيان مصر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن بلاده تواجه ندرة مائية حادة، والعجز السنوي يزيد على 50 في المئة، مما يضطرها إلى إعادة استخدام المياه مرات عدة.
وحذر شكري من محاولات إثيوبيا فرض الأمر الواقع، مؤكداً أن الأمر سيكون له ردود فعل مختلفة عندما يتصل بحياة ما يزيد على 100 مليون مصري.
جولة مفاوضات جديدة
من جانبه، قال المتحدث باسم وزارة الموارد المائية والري المصرية محمد غانم، إن هناك جولة تفاوضية أخرى في القاهرة الشهر المقبل، معرباً عن أمله في أن يتحلى الجانب الإثيوبي في المفاوضات القادمة بالإرادة السياسية والجدية في الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم لملء وتشغيل السد.
وأوضح غانم أن إثيوبيا وخلال الجولة الثانية من المفاوضات التي عقدت في أديس أبابا تراجعت بشكل واضح عن عدد من التوافقات التي تم التوصل إليها في اللقاء السابق في القاهرة، مؤكداً أن هذه الاقتراحات فنية وتخص التشغيل، وفوجئ الجميع بأنها تطلب تعديلها على رغم أنها من اقترحتها، مشيراً إلى أن مصر تسعى من خلال المفاوضات إلى تحقيق مطالب الدول الثلاث والحفاظ على حقوقها المائية وأمنها المائي.
مجلس الأمن
وعقد مجلس الأمن جلسة لمناقشة أزمة سد النهضة في يوليو (تموز) 2021 بعدما تقدمت تونس بطلب للمجلس بهدف التوصل لاتفاق ملزم ين إثيوبيا والسودان ومصر في شأن تشغيل السد، إذ أعلنت الدول الـ15 الأعضاء بالمجلس ضرورة إعادة المفاوضات بين الدول الثلاث تحت رعاية الاتحاد الأفريقي بشكل مكثف، لتوقيع اتفاق قانوني يخفف من التصعيد الذي يؤثر مباشرة على المنطقة والقارة الأفريقية.
وفي سبتمبر (أيلول) 2021 حث مجلس الأمن الدولي مصر وإثيوبيا والسودان على استئناف المفاوضات، بدعوة من رئيس الاتحاد الأفريقي، بهدف وضع صيغة نهائية لاتفاق مقبول وملزم للأطراف، وعلى وجه السرعة، في شأن ملء وتشغيل سد النهضة، ضمن إطار زمني معقول.
وشجع مجلس الأمن المراقبين الذين تمت دعوتهم لحضور المفاوضات التي يقودها الاتحاد الأفريقي وأي مراقبين آخرين قد تقرر مصر وإثيوبيا والسودان دعوتهم بشكل توافقي ومشترك، على مواصلة دعم المفاوضات بهدف تيسير حل المشكلات الفنية والقانونية العالقة.
تهديد للأمن القومي
وزير الري المصري الأسبق محمد نصر علام أكد أن الجانب الإثيوبي متعنت بشدة تجاه هذا الملف، مشيراً إلى أن مصر توجهت لجميع الشركاء الدوليين ومنهم الولايات المتحدة والإمارات وغيرهما من الدول دون جدوى، مشيراً إلى أن القاهرة لا تزال حريصة على الحل السلمي لقضية السد حتى هذه اللحظة، مؤكداً أن ملف تشغيل السد واستكمال الملء هي قضية في غاية الخطورة وتحتاج لتنسيق بين الدول الثلاث، قائلاً “الوضع الحالي يحتاج إلى التواصل والوصول إلى حل، ولكني أشك في استجابة إثيوبيا لهذا”.
الوزير الأسبق أكد أن الانتقاص من حصة مصر المائية سيشكل أزمة ضخمة، مشيراً إلى أن القاهرة توجهت لمجلس الأمن من قبل والذي أحال الأمر للاتحاد الأفريقي الذي لم يقدم أي جديد لحل الأزمة.
ويرى علام أن التوجه مجدداً لمجلس الأمن سيكون باعتبار الأمر حالياً تهديداً مباشراً لحياة ملايين المواطنين، وهو الخطوة الأخيرة لمصر، والتي حان وقتها بالفعل وهو تنبيه للعالم مفاده “لو لم تتدخل الدول الكبرى لإنهاء الأزمة فلمصر كل الحق في حماية شعبها باستخدام كافة الوسائل لأن ما يحدث تهديد للأمن القومي وتهديد استراتيجي خطر لوضع مصر في قارة أفريقيا”.
وأضاف وزير الري الأسبق أن الصمت على مواقف إثيوبيا والتي تسعى إلى التأثير استراتيجياً على مصر وهو مخطط يحاك منذ سنوات، سيدفع دول أخرى لإقامة سدود وستزيد الأزمات أكثر. وتابع “الأمور بهذا الشكل لا تسير في مسارها السليم”.
تقاسم المياه
ويرى متخصص العلوم السياسية بكلية الدراسات الأفريقية العليا في جامعة القاهرة أيمن شبانة أن مسألة “تقاسم مياه النيل” ظلت القضية الخلافية الأساس بين دول الحوض، والتي أدت إلى نوع من الاستقطاب في المواقف بين دول المنابع بوجه عام على اختلاف توجهاتها، ودولتي المصب مصر والسودان، فتقاسم المياه بين دول حوض النيل ظل يتبع في الغالب معيار “التقاسم بحسب الحاجات السكانية” والاستخدامات السابقة والحالية للمياه أو ما يمكن تسمته معيار “الحقوق التاريخية المكتسبة”.
وفي إطار اتفاقيتي 1929 و1959 تم التقاسم بحسب الحاجة، حيث اعتبرت مصر والسودان أن هذا يضمن الاستخدام العادل والمنصف لموارد النهر، دون المساس بالحقوق التاريخية المكتسبة، باعتبار أن هذه الحقوق غير قابلة للانتقاص، وليست محلاً للتفاوض المستقبلي، وأن أية مفاوضات في شأن التقاسم العادل والمنصف يجب أن تكون بالنسبة لإيرادات النهر المستقبلية فحسب، كما تكشف خبرة البلدين تمسكهما بمعايير درجة اعتماد السكان على مياه النهر، والاستخدامات السابقة (التاريخية)، والقائمة والمحتملة للنهر، ومدى توافر المصادر المائية الأخرى”.
في مقابل ذلك ترى دول المنبع أن الأساس العادل لتقاسم مياه النيل يرتكز إلى معيارين اثنين هما مساحة حوض النهر الذي يمر عبر أراضي الدولة، وكذلك مساهمة كل دولة في الإيراد المائي للنهر، “باعتبارهما ضمن المعايير الخمسة التي وردت في إطار قواعد هلسنكي لعام 1966، والتي تشمل أيضاً احترام الحقوق التاريخية والمكتسبة للدول المنتفعة، والتزام التشاور المسبق بين الدول المشتركة في الأنهار الدولية”.
وتعتبر إثيوبيا أن اتفاقات تقاسم المياه بين مصر والسودان “مجحفة” بحقوق دول المنبع التي تسهم بالقسط الأكبر من مياه النيل، بينما ترى دولتا المصب أنه لا يمكن الاعتماد على معيار مساهمة كل دولة في مياه النهر، إذ لا تقدم مصر كدولة مصب أية مساهمة في الإيراد المائي السنوي للنهر، بينما تبلغ نسبة مساهمة السودان واحد في المئة فقط.