بابكر بشير يكتب : *و لسة برؤيتك بنحلم*
بابكر بشير يكتب :
*و لسة برؤيتك بنحلم*
(1)
كان خبره هذه المرة َ ليس كعادة أخباره التي تحمل النسائم الموشوشة بالخمائل.. و لا كأخبار زاد الشجون..
إنما كان خبراً كالصاعقة في قلوب محبيه و عاشقيه، ليس لأن قريحته كانت قد جادت بأعمال شعراء كبار بالسودان، أمثال فضل الله محمد، إسحق الحلنقي، ابو آمنة حامد، محمد علي جبارة، هاشم صديق و غيرهم من عمالقة الشعراء العظماء بالبلاد. و ليس لأنه يعد من جيل كبار الفنانين العمالقة الذين رحلوا عن دنيانا أمثال محمد وردي، عثمان حسين، أحمد المصطفى، زيدان إبراهيم، الكابلي.. الخ.
بل لأنه من الفنانين النادرين الذين استطاعوا تطويع الكلمات الصعبة لحناً و عزفاً و غناءً ، و هو يعد رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه بأية حال من الأحوال في خارطة الغناء السوداني.
الموسيقار محمد الأمين بعطائه الزاخر، إستطاع أن يخلد في ذاكرة الأغنية السودانية أعمال كبيرة و متنوعة، و هو الذي غني للوطن، و المحبوبة، و الأخوة، و الأصدقاء و الثورة و غيرها.. و لأني من عاشقي فنه، كان لخبر رحيله غصة في حلقي، و هو الذي استطاع أن يسربل فنه في دمي منذ نعومة اظافري. و لي حكايات و قصص عالقة في ذهني مع مسيرة هذا الفنان العملاق. اذكر و إنني في بواكير عمري في الثمانينيات، كان هنالك وفود من الفنانين يطفون الولايات، لأداء حفلات على خشبة مسارح دور السينما، و تصادف خلال اشهر متتالية أن زار مدينة المناقل عدد من الفنانين على مراحل مختلفة، و في ذات مرة قدم وفد كبير من الفنانين ضم (زيدان ابراهيم، عوضية عزالدين، حنان بلوبلو، إبراهيم عوض.. ) و هؤلاء كانوا يعدون فناني “شباك”
قدموا إلى مسرح سينما المناقل لأداء حفل ساهر، تحاشد الجميع شيباً و شباباً إلى حضور هذا الحفل بما فيهم اصدقائي، إلا شخصى، لم تحدثه نفسه لهذا الحضور، ليس إستصغاراً من فن هؤلاء العمالقة بالتأكيد هم في خانة الفنانين الكبار، لكن هي فقط مسألة إختلاف أذواق.
(2)
في الأسبوع الذي تلي مقدم هؤلاء الفنانين، قدم إلى مدينة المناقل و بخلاف ما هو كان سائداً وقتذاك الأستاذ الموسيقار محمد الأمين بوفد ضم فرقته الموسيقية فقط، دون إستصحاب اي فنان آخر، رغم ذلك حرص جمهور المدينة حضور هذا الحفل بما فيهم أنا العبد لله، لا أدري ما الذي حملني إلى ذلك و انا الطفل اليافع. كان ذلك مصدر إندهاش للجميع حتى من قبل اصدقائى رفقائي، بما ذلك العم “عبد الله ” تاجر بسوق المناقل الكبير الذي كنت أعمل معه رحمة الله عليه، رفقة أبناءه “الهادي” حارس مرمى نادي الأهلي حينذاك و محمد.
و كان مصدر الإندهاش نابع من كون صغر سني و انا تلميذ الإبتدائي.
هذا جعل العم عبد الله يقوم بدعم عنفوانيتي هذه مالياً ولوجستياً، من خلال توفير قيمة التذكرة، و كسوة متكاملة مشتملة على قميص و بنطلون و حذاء و شال، هذا الدعم هو كان بمثابة جواز مرور بالنسبة لي لإعتماد هذا الفنان كفنان له قيمة، في سن لا يكاد يأبه المرء بين الموسيقى و الكلمات.
(3)
و مع مرور الزمن و قوي عودي، شاءت الأيام أن التقى بفناني الأول محمد الأمين الذي طالما عشقت فنه في الصبا، التقيته و انا طالب إعلام بالجامعة، حينما قررنا نحن أعضاء مكتب تنفيذي جمعية الصحافة والعلاقات العامة بكلية الإعلام في الجامعة الإسلامية، أن يقيم لنا حفلاً خيراً لدعم أنشطة الجمعية. التقيناه لأول مرة بمعرض الخرطوم الدولي بمكتب استاذنا “أمير التغلب” الذي كان مديراً لمكتب العلاقات العامة بالمعرض، لم استطيع أخفاء إعجابي به و بأدائه الفني الرفيع فحدثته بذلك، الأمر الذي جعل منه إستسهال مأمورية عقد الاتفاق لتنفيذ الحفل، فهو الرجل الصعب المعروف بتعامله الرسمى، فقد حذرنا عنه الكثيرين، لكن رغم ذلك لم نجد منه سوى التعاون الكامل حتى تمكنا من تنظيم الحفل، فنشأت منذ ذلك الوقت العلاقة، فكلما تحين لي الفرص بإلتقائه، اسعد لإستذكاره بحكايتي و لحظاتي الأولى معه، و دائما ما أجد نفسي سعيداً بطرح سؤال عن معرفة الجديد من أخبار أعماله الفنية، و كعادته المعروفة به في الدعابة يقول لي “عندي ليك خبر أهم.. اخبار جديدة” كما كان ذلك في لقائي به بكادقلي أثناء مهرجان السياحة و التسوق و التجارة السلام.
فهو الفنان المتكامل من حيث العزف و اللحن و الغناء و تنظيم الكلمات، افتقدته البلاد صباح أمس الأول برحيله عن دنيانا الفانية، فنعته الدولة و المؤسسات الشعبية الجماعية و الفردية بأجمل و ارفع العبارات وهو بلا شك يستحق كل ذلك لما قدمه من عطاء زاخر سيكتب في صحائف عظماء بلادي.
آلا رحمة الله عليك فنانا ود المين، فقد كنت فينا عبر فنك، احساساً و أدباَ و ثقافة، فلا زلنا برؤيتك بنحلم، طالما إرثك الغنائي خالداً في وجدان الشعب السوداني ارقد بسلام في الفردوس الأعلى.