فضيلي جمّاع يكتب : *من لأطفال المجاري في كادقلي من بعدك ؟*
فضيلي جمّاع يكتب :
*من لأطفال المجاري في كادقلي من بعدك ؟*
——
عن رحيل المثقف الزاهد د. محمد ابراهيم سليمان :
غريبة هي الحياة. نعيش مع بعض الأقربين وبعض المعارف حزمة من السنوات. نحسب أننا عرفناهم حق المعرفة. وإما رحلوا خلسة إلى الأبد ، ظهر لنا عبر أكثر من رواية عنهم ذلك الوجه المضيء للقمر. لندرك ساعتها وسط دهشتنا الساذجة كم كنا نجهل محاسنهم وهم أحياء !
رحل خلسةً، الخميس أول فبراير 2024م العالم البيطري وخبير التنمية الريفية المثقف الزاهد الدكتور محمد ابراهيم سليمان. كان رحيله المفاجيء قد شقّ على أسرته وأصدقائه وأهله ومعارفه داخل وخارج الوطن المنكوب. التقيت الفقيد عدة مرات، فنحن – إضافة إلى رابطة المكان (الوطن الأصغر) ، تربطنا أواصر العشيرة والأسرة الممتدة كما هي الحال في معظم أنحاء بلادنا. لكني لا أدّعي أنني عرفت الرّجل عن كثب مثلما ربطت الصداقة المتينة وهموم الوظيفة بينه وبين أخي الذي يكبرني علي جمّاع. ولا أظنني سمعت صوت أخي علي بمثل هذه الدرجة من رنة الحزن – من بعد رحيل الوالدين – مثلما سمعته أمس وهو يتواصل معي معدداً مآثر صديقه الحميم الدكتور محمد ابراهيم سليمان!
جيء بالصبي محمد ابراهيم سليمان إلى المدرسة – مثلما جيء بالكثرة منا نحن أبناء بادية وحلالات وقرى غرب كردفان- وسط تردد وامتناع بعض الآباء يومذاك بحجة أنّ المدرسة مفسدة للعيال! ولعلّ الصدف وحدها هي التي لعبت دورها في أن يلين جانب آبائنا، فنلتحق بالمدارس. وفي بالهم أنّ رعي المواشي والزراعة وركوب الخيل و”القنيص” بانتظارنا إن لم تؤت المدرسة ثمارها!
تقول السيرة الذاتية للراحل المقيم الدكتور محمد ابراهيم سليمان أنه تلقى تعليمه الإبتدائي بمدرسة المجلد الجنوبية الإبتدائية ، ثم الفولة الوسطى فالنهود الثانوية حيث التحق بعدئذ بكلية البيطرة – جامعة الخرطوم، والتي تخرّج فيها العام 1980 م. ومما شهر به أنه كان طالباً مثقفاً وكاتباً بارعاً. ولعلّ من الأمانة أن نشير إلى ما رواه زملاؤه بأنّ طالبين إثنين فقط في جامعة الخرطوم كانا يصدران -كل على حدة – صحيفة حائطية : الطالب محمد طه محمد احمد والطالب محمد ابراهيم سليمان! عرف محمد أبراهيم سليمان بين زملائه في الجامعة بتحرير صحيفة حائطية بعنوان (الجراب). أصدر صحيفته الحرة المستقلة وهي الشهادة على واسع ثقافته واضطلاعه واستقلاله.
نال الفقيد درجة الدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه من فرنسا. عمل معظم سنوات حياته بكردفان (خبيرا باليونيسيف) في أكثر مناطق الإقليم حاجة للتنمية. عمل بكادقلي (مشروع التنمية الريفية بجبال النوبة)، وهو مشروع – كما ذكر أحد زملائه – يقتضي الطواف المستمر على مراكز المشروع في مختلف أصقاع كردفان الكبرى: الدلنج، السنجكاية ، الدبكر، أبو زبد، السنوط، دميك ، لقاوة ، نبقاية ثم شرق الجبال ام سردبة واندولو والشواية وام دورين وحلالات وقرى لا تحصى في إقليم كردفان!
ورد في صدر هذا المقال عبارة (المثقف الزاهد) لاعتقادي أنّ أهم سمة للمثقف الحر هي زهده في الترف ومغريات الحياة حين تدفعه أفكاره لارتباطه بالناس حوله. وأعني بالناس هنا المتعبين والفقراء ، وهم يمثلون الكم الأكبر للسكان في بلادنا. لذا فإنّ الثقافة التي لا تدفع حاملها للإنتماء لهؤلاء إنما هي رصيد عاطل من ركام المعرفة ، وحصيلة أقرب إلى التسلية ومضيعة الوقت! تحضرني هنا كلمات المناضل الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci في كتابه “مذكرات السجن” إذ يشير إلى أنّ التفكير سمة إنسانية يشترك فيها جميع الناس. بيد أنّ وظيفة المثقف الحر لا يقوم بها كل شخص. يقول غرامشي: (إنّ جميع الناس مفكرون. لكنا نستطيع أن نقول : إنّ وظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع لا يقوم بها كل الناس)!
أستميح قارئ هذا المقال العذر مرة أخرى للتأكيد على ما ذكرته من زهد المثقف الحر عن الراحل المقيم الدكتور محمد إبراهيم سليمان وهو ينبري في مدينة كادقلي لمشروع – كان حريصاً عليه كل الحرص. كان حريصاً ألا يدخل بينه وبين من يعنيهم ذاك المشروع أي مسئول أو مؤسسة. قليلون يعرفون أن علاقة الراحل المتينة بمدينة كادقلي والتي استغرقت معظم سنوات حياته المهنية لها ارتباط شبه روحي بذلك المشروع الإنساني الخالص، ألا وهو صلته الحميمة بأطفال المجاري الفقراء وأسرهم. وهي علاقة وصلت إلى أنه كان إذا سعى في الشارع تحلقوا حوله فرحين برؤيته والحديث معه. كان ينفق عليهم من جيبه في صمت. وكان حريصاً أن تكون علاقته بهم وبعائلاتهم هي علاقة الأب أو الأخ الأكبر بذويه. يلخص أخي علي جمّاع – أقرب الأصدقاء لمحمد ابراهيم سليمان على مدى سنوات طوال – يلخص لي هذا الزهد وهذا الإلتزام الإنساني النظيف في رسالة صوتية، أستأذنه لأنقل منها هذا المقطع دون تصرف:
( الشيء العايز أذكره عن محمد ابراهيم سليمان والناس ما بعرفوه هو إنو محمد بقي يصرف على أطفال المجاري في كادقلي. وتعلقوا بيهو.. وعمل علاقة مع أسرهم. كان رافض يتكلم في الموضوع دا لأنه بفتكر زي الزول البتكلم عن الإحسان البقدمو. وبسببهم رفض وظيفتين عالميتين بعد التقاعد ، دون أن يذكر الأسباب. لذلك عاش في كادقلي أكثر من تلاتين سنة ) !!
نسأل الله الرحمة والمغفرة الواسعة للدكتور محمد إبراهيم سليمان. وأن تكون سيرته ناصعة البياض مثالاً يحتذى لكل متعلم ومتعلمة في جميع أنحاء وطننا السودان. ونسوق آيات العزاء الحار لأسرته الصغيرة وقد عاش ليرى النجاح الباهر الذي حققه أبناؤه وبناته. العزاء لأصهاره آل المرحوم شميلة على الجلة بمدينة المجلد، ولأسرته الممتدة في المجلد وضواحيها وفي بحر العرب. ونرفع حار العزاء لزملائه وأصدقائه في كل أنحاء السودان. والعزاء دون شك لأطفال المجاري الذين نذر حياته لهم في تواضع وصمت ، طمعاً في الثواب من العلي القدير. من يدري، فقد يطلع من بينهم ثائر أو عالم أو مصلح إجتماعي يواصل الطريق الذي اختطه الراحل المقيم الدكتور محمد ابراهيم سليمان. يقول التاريخ إنّ معظم الأنبياء والثوّار الذين نهضوا بالبشر من الركام إلى حياة العزة والكرامة كانوا فقراء ويتامى ومعدمين!
فضيلي جمّاع
لندن
فبراير 2024