د.السر احمد سليمان يكتب : *في العمرة تحرر من العادات وترقية للذات*
د.السر احمد سليمان يكتب :
*في العمرة تحرر من العادات وترقية للذات*
العمرة هي العبادة المقيدة مكانا بالبيت العتيق في مكة المكرمة، والمحررة في زمانها طوال العام، ولذا فالعمرة تقتضي قصد السفر إلى مكة والتعبد بالإحرام والطواف والسعي والتقصير في أي وقت من الأوقات.
وقد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات في حياته، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل العمرة؛ ومنها: “العُمرةُ إلى العُمرةِ كفَّارةُ ما بَيْنَهما والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلَّا الجنَّةُ”. ولذلك يكثر البعض من القيام بالعمرة كلما تيسر له ذلك.
ولكن الملاحظ أنّه كلما زار الفرد مكانا ما للسياحة أو لغيره؛ إلا وقلت دافعيته تجاه ذلك المكان لزيارته تدريجيا في المرات المقبلة، والدليل على ذلك هو تجدد البحث عن جهات جديدة أو أماكن أخرى لم تتم زيارتها من قبل، ولكن الذهاب للعمرة في الحرم الشريف في مكة المكرمة تتجدد الرغبة له وتتزايد كلما كرر المرء ذلك.
فإلى مكة المكرمة والبيت العتيق يتجدد الهوى وتزداد الرغبة للزيارة مرات ومرات، وكيف لا وقد دعا الخليل من قبل بذلك قائلا: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون}[إبراهيم:37].
فذاك الهوى الروحي يبعث الأشواق ويحدو الأنفس للسفر لمكة لتحقيق الانشراح وحصد الأفراح! وكيف لا وفي البيت الحرام المثابة والأمان كما قال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً..}[البقرة:125]. وقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ..(97)}[آل عمران].
فالشعور بالأمان يلازم المعتمر في الحرم على الرغم من كثرة الناس وازدحامهم، وعلى الرغم من تباين سحناتهم ولغاتهم! والشعور بالأمان هو أهم المتطلبات الإنسانية التي يحتاج الإنسان لإشباعها؛ حتى ينطلق ويتحرر من أكبر القيود المانعة؛ ويتحقق التحرر ويتعزز بما تتطلبه العمرة من التزامات.
فيبدأ المعتمر بالتجرد من المقيدات التي اعتاد عليها، والتي يرى أنّها من الثوابت في حياته، فيخلع المعتمر الرجل ملابسه أيا كانت، ويتخلى عن عاداته في الزي مهما كان ويلبس ملابس الإحرام التي تتطلبها العمرة، وتخلع المرأة عادات الزينة والميكاب أيا كانت، وتخرج للعمرة بدون تلك العادات، ولذلك يشعر المعتمرون بالخفة والمتعة نتيجة للتحرر من هذه المقيدات الخارجية التي (فرضتها) عادات اجتماعية فأصبحت ملزمة للأفراد ومقيدة لحرياتهم الشخصية.
ومن الداخل يتحرر المعتمر من دوافع الشهوة ويضبط حاجاته الجنسية؛ لأنّ الاحرام بالعمرة يتطلب الامتناع عن ذلك حتى في الحلال، فيرتقي الإنسان ويسمو درجة أعلى في سلم رقيه الروحي.
ويتحرر المعتمر من ضغط غريزة العدوان في التعامل مع البيئة والآخرين فيقوم المعتمر بضبط الدوافع العدوانية وقهرها؛ لأنّ العمرة تقتضي ذلك كما ورد في الحديث عن مكة المكرمة: “لاَ يُختَلي خلاَها، ولاَ يُنفَّرُ صيدُها، ولاَ تُلتَقطُ لقطتُها، إلاَّ لمن أشادَ بِها، ولاَ يصلحُ لرجلٍ أن يحملَ فيها السِّلاحَ لقتالٍ، ولاَ يصلحُ أن يقطعَ منْها شجرةٌ إلاَّ أن يعلِفَ رجلٌ بعيرَهُ”.
وقبل كل ذلك يكون المعتمر قد تحرر من الارتباط بالمكان والبيت الذي آواه في بلده، وقصد إلى البيت العتيق، فيجده أكثر بركة من بيته، وأكثر أمانا، ولذلك ترى المعتمرين منشغلين بأعمال العمرة مرتقين بأرواحهم تلهج ألسنتهم بالذكر والدعاء وقراءة القرآن ومساعدة بعضهم بعضا، نفوسهم منشرحة وأفئدتهم رقيقة، ووجوههم طلقة لا تفارقها الابتسامات والتعبير عن الرضا.
وترى المعتمرين نشاطا خفافا، يتحملون المشقة، يقطعون المسافات، ويبقون ساعات طويلة في الحرم، على الرغم من الزحام، ومن حرارة الطقس في كثير من الأحيان، فلا ترى فيهم كسلا ولا هوانا؛ أيا كانت أعمارهم كبارا وصغارا، وأيا كانت حالاتهم سواء النساء العجزة المقعدات والشيوخ الكبار الضعاف في أبدانهم، والذين يظن بهم الاستسلام والبقاء في أسرتهم، وانتهاء جدول أعمالهم في الحياة.
وعلى الرغم من قصر وقت العمرة الذي لا يتجاوز سويعات من النهار أو الليل إلا أنّ المعتمرين يشعرون بأنّ الطاقة الروحية قد ملأت جنباتهم وفاضت، وكيف لا وهم قد تحرروا من مقيدات وعادات كانت آسرة لهم، وكيف لا وهم قد سموا على دوافعهم ونزعاتهم، ولذلك تنسلخ النفوس عن شحها، فيتقاسم المعتمرون الخبزة الواحدة وحبات التمر القليلة، ويتسابقون في فعل الخيرات وتقديم المساعدات لبعضهم بعضا، ويلهجون بالدعاء لأنفسهم ولذويهم وللآخرين، وتتجلى ذواكرهم بأسماء من وصاهم بالدعاء ومن لم يوصهم يشملونه بدعائهم أيضا.
وفي العمرة تزكو النفوس وتستريح برَوْح ما وجدت من ارتقاء وما علت من درجات، ويجد المعتمرون البركة والهدى ملموسة بين ناظريهم في البيت الأول كما ورد في قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين}[آل عمران:96].
اللهم نسألك العمرة لكل من لم يعتمر، وتكرارها لمن اعتمر، ومن لم يجد ففي الدين يسر وفسحة وبدائل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من صلى الفجر في جماعة، ثم قعَد يذكر الله حتى تطلُع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة، تامة، تامة”.
د السر أحمد سليمان