صهيب حامد يكتب : *آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (٩-١٥)*
صهيب حامد يكتب :
*آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (٩-١٥)*
حسنا.. وكما أسلفنا في الحلقة السابقة فلقد أحدث الحكم التركي كسرا بنيويا في الصفيحة الإجتماعية في السودان .. مجموعات الشمال النيلي المستعربة والتي أستلحقت بقاعدة الحكم الجديد صارت جزء من (بنية عقل برجوازي) وهي بنية شرحنا خصائصها في الحلقة السابقة ، ومن يد فلقد أدامت متبقي المجتمعات السودانية إستدماجها للبنية القديمة قبل الغزو (بنية عقل تناسلي). يقول صاحب التحليل الفاعلي (أ. الشيخ محمد الشيخ) محددا خصائص هذه البنية الأخيرة.. فالعقل التناسلي هو نواة توليدية أو نسق يخلق محتوى معرفي سلوكي يؤسس للحياة على قاعدة التناسل فحسب ، وينشأ في ظل ظروف تهديد النوع والصراع بين المكونات الإجتماعية فيكون النظام الإجتماعي قائما على مفهوم القرابة فحسب وكذلك نفسيا لا يعي الإنسان نفسه ولا يعرّفها إلا ككائن تناسلي يكسب الإحترام من فحولته وتكسب المرأة تقديرها كذلك من خصوبة رحمها وفاعليتها الإنجابية وتكون الأبستيمة (النظام المعرفي) غيبية إتكالية إحيائية وليس توكلية ويكون نظام القيم في المجتمع قائم على مفهوم الشرف فحسب. وسوف نعود لهذه التركيبة مجددا حين نحلل الأسباب الإجتماعية لإندلاع الثورة المهدية. حسنا.. إذن هكذا إنقسم المجتمع السوداني إبان الحكم التركي لفاعليتين.. قاعدة حكم تشمل الأتراك ومجموعات الشمال النيلي المتحالفة معه وتقوم على قاعدة وعي برجوازي مهمتها إستحلاب الخيرات المادية بكل وسيلة متاحة سلاحها في ذلك القوة النارية لجيش حديث إلى جانب سلاح أيديولوجي ديني يسوغ هذه الممارسة. وتؤدي هذه المهمة الأخيرة (الطريقة الختمية) والمذاهب التي أتى ممثلوها مع الغزو (مالكية شافعية واحناف). الفعالية الثانية هي غالبية المجتمعات السودانية في الغرب والجنوب والتي مارست عليها الفعالية الأولى الإسترقاق والتطهير العرقي ونهب الموارد. لما يؤسف له أن المجتمعات السودانية كانت أرض المخزن الذي كان يزداد إنتهاكه بمتوالية تتناسب هندسيا مع تدهور الأوضاع الإقتصادية والسياسية في مصر.
لقد حاول محمد علي باشا في مراحل الحكم الأولى أن يصنع قدر من الرضا لدى السودانيين تجاه الحكم التركي وهو ما سار عليه محمد سعيد باشا من بعده (إبراهيم باشا وعباس الأول لم يحكما طويلا) ، فكلا الأولين زارا السودان ووقفا على أحوال أهله. ففي زيارته للسودان في خمسينيات القرن التاسع عشر أصدر محمد سعيد باشا الفرمانات الشهيرة التي حسّنت أوضاع الأهالي بالسودان وطوّرت بعض أوجه العمل الاقتصادي. ولكن منذ إعتلاء إسماعيل باشا (الخديوي إسماعيل فيما بعد) الحكم في ١٨٦٣م تدهورت الأوضاع في السودان. أولا حدث تمرد الجهادية السود في كسلا في ١٨٦٣م الذي إنتهى بإعدام قادتهم وهروب باقي الجهادية مما خلق نوع من البلبلة في الشرق خاصة والسودان على وجه العموم. ذلك على مستوى السودان ، اما على مستوى مصر فلقد دخل إسماعيل كوالي لمصر في مساومات مع الباب العالي ب(إسطمبول) لتحسين وضعه وتوريث العرش للأبناء بدلا من الاخوة مقابل زيادة الجزية المدفوعة إلى الضعف (من ٣٠٠ الف ج إلى ٦٦٥٠٠٠ الف ج) وهو ما منحه منصب الخديوي في ١٨٦٧م وأعطى مصر قدر من الحرية في إدارة شئون الحكم محولا مصر من إيالة (Eyalet) إلى أشبه بوضع الدولة المستقلة وهو ما أطلق يد الخديوي إسماعيل إنطلاقا من ١٨٦٧م للإستدانة بلا وازع أو رقيب بهدف تحديث مصر. لقد أكمل الخديوي إسماعيل قناة السويس في ١٨٦٩م كذلك أنشأ الخديوي إسماعيل من مال الديون ١٣ الف قناة ري جديدة و٩٠٠ ميل من السكك الحديد و٤٥٠ مدرسة جديدة و٤٠٠ كبري و٣٠ قصرا خديوياً جديدا وقام بتحديث القاهرة معماريا بالتوسع الغربي للمدينة (وسط البلد الحالية) فكانت نتيجة ذلك أن إرتفع دين الدولة المصرية من ٣ مليون ج إسترليني إلى ٩٦ مليون ج إسترليني في بلد يبلغ دخله المحلي الإجمالي فقط ٨ مليون ج وعدد سكان لا يتجاوز ٥ مليون نسمة!!!. هنا وإبتداءا من ١٨٧٦م بدأت تتفاقم أوضاع الدين الإسماعيلي في الإقتصاد المصري وهو ما إضطر الدائنون (بريطانيا وفرنسا بالاساس) لحجز أملاك الخديو إسماعيل أولا ثم إنشأ مجلس الدين (Caisse de la Dette) وهو ما أدى لبيع أسهم مصر في شركة قناة السويس لكل من بريطانيا وفرنسا وبذا فقدت مصر إستقلالها السياسي والإقتصادي لصالح الدائنين إلى الإطاحة بالخديوي إسماعيل في ١٨٧٩م لصالح إبنه الخديوي توفيق وإحتلال مصر بواسطة بريطانيا في ١٨٨٢م.في هذه الأثناء إنعكس هذا الوضع الإقتصادي المزري على السودان إذ كانت آجال سداد الدين الإسماعيلي تلقى بظلالها على الإدارة التركية هناك والتي زادت من عبء التحصيل الضريبي على المواطنين السودانيين الذين منذ ذلك التاريخ بدؤوا في إبداء التذمر والهرب أمام مسؤولي التنظيمات الضريبية وهو ما حدى بالسلطات التركية وأعوانها في إستخدام أسوأ الأساليب في تحصيل الضريبة (الطلبة والدقنية). كذلك تفاقم في هذه الحقبة وضع تجارة الرقيق لمقابلة الربط الخديوي وهو ما أحدث ضرراً بليغاً بالمجتمع السوداني مقارنة بكل الحقب في تاريخ السودان.
لقد كان الخديوي إسماعيل طموحا ومستنيرا وجذّابا وفق وصف فرديناند ديلسبيس (مهندس قناة السويس) وهو في عمر الخامسة والعشرين قبل إعتلاءه العرش ولكن كذلك تنطوي نفسه على عشرات المشاعر المتناقضة إذ تحمل جيناته نزوعاً للبذخ لا يبارى ، وهذا الخليط من السلوك هو ما أوقعه وأوقع مصر في مصيدة تم إدارتها لإضعافه وإضعاف مصر بشكل سئ وماكر من قبل كل من بريطانيا وفرنسا. لقد إستفادت الدول الدائنة من الحرب الأهلية الأمريكية في ١٨٧٦م والتي خلقت إنهيارا إقتصاديا عالميا أثّر بشكل سلبي في أسعار القطن وهي السلعة التي كان يعتمد عليها الخديوي إسماعيل في سداد الديون الإسماعيلية. ما من شك أن إحدى أهداف إنشاء مجلس الدين (Caisse de la Dette) هو الإستيلاء على أصول مصر وأولها قناة السويس (هل يعيد التاريخ نفسه الآن!!؟) ، كذلك برز في السياسة البريطانية في هذه الحقبة ما يسمى بلوبي السودان (Sudan Lobby). يقول جمال الشريف “وقد أكّد التقصي والتحليل الذي شمل الفترة التي سبقت إعادة فتح السودان عن أن جماعات الضغط التي ظهرت أدوارها خلال الحكم الثنائي والإستقلال تمتد جذورها إلى فترة ما قبل الحكم الثنائي”. لقد كانت هذه المجموعة تختلف مع الحكومة البريطانية في نقطة أساسية وهي أنها ترى ضرورة وقف تمدد النفوذ المصري السوداني في حوض النيل وبله منع الوحدة بين مصر والسودان بينما ترى الحكومة البريطانية أن لا دخل لها في ذلك. يستطرد جمال الشريف في كتابة الركيزي الصراع السياسي على السودان “فرضت هذه الجماعات سياساتها وإستراتيجياتها بشأن السودان على الحكومة البريطانية وإستخدمت كل الأساليب الملتوية بدءاً من تضليل الحكومة إلى تزوير المعلومات وعصيان التعليمات وتسريب المعلومات الي الإعلام وإستخدام الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني ضد السياسات الرسمية وإستغلالها لتحقيق أهدافها بدلا عن أهداف الحكومة”. لقد كان لوبي السودان مجموعة كبيرة من العسكريين والسياسيين البريطانيين على رأسهم اللورد هارنجنتون وزير الحربية في حكومة غلادستون َوالجنرالان المهمان ولزلي وغردون باشا. إذن وفي هذه المرحلة تم الضغط على الخديوي إسماعيل لوقف الإتجار بالرقيق وهو في أمسّ الحاجة لعائدات هذه التجارة ومن ثم إجباره على تعيين غردون باشا حاكما على الإستوائية في ١٨٧٨م لتنفيذ أمر تحريم تجارة الرقيق إنطلاقاً من غندكرو ومشرع فاشودة وأخيرا تعيينه حاكما على السودان في ١٨٨٤م لإخلاءه من السيادة المصرية!!!. إذن لقد ألقت تركة عهد الخديوي إسماعيل بكلكلها على السودان وشعبه مما سوف يكون له أكبر الأثر في تطور مجرى الأحداث خصوصا الإنشقاق في قاعدة الحكم في السودان بعد حظر تجارة الرقيق. فلقد كانت المجموعة النيلية داخل قاعدة الحكم التركي في السودان تقتات بشكل أساسي من هذه التجارة وبإنهيارها إنهار التحالف القائم بين الأتراك والمجموعات المحلية بإنهيار قاعدة التبادلية الأساسية (الريع مقابل الأمان) وهكذا كي نختبر في هذه المرحلة بشكل حقيقي دقة وموثوقية منهج تحليلنا القائم على المقاربة الثنائية التي تدامج بين التحليل البنيوي والتحليل الفاعلي وهو ما سوف تكشفه مقاربتنا لنشوء وتبلور الثورة المهدية إنطلاقا من الحلقة القادمة ولله المثل الأعلى..نواصل.