صهيب حامد يكتب : *آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (١٠-١٥)*
صهيب حامد يكتب :
*آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (١٠-١٥)*
وكما أبنّا في الحلقة السابقة فلقد ألقى تدهور الوضع السياسي والإقتصادي بمصر بظلاله على الأوضاع بالسودان خصوصا في حقبة الخديوي إسماعيل (١٨٦٣-١٨٧٩م). لقد تزايد النفوذ الغربي بمصر (خصوصا بريطانيا) وهو ما أدّى لتقليص الإعتماد على الحكمداريبن الأتراك في السودان وأٌستعيض عنهم بإداريين أوروبيين (غردون، سلاطين، د.أمين، صمويل بيكر وغيرهم) وهو مؤشر يعكس متغير في البنية السائدة من هنا فصاعدا. إذن كذلك ومنذ إنشاء قناة السويس في ١٨٦٩م تزايدت الأهمية الإستراتيجية لمصر مما حدا فكثير من القوى الدولية التكالب عليها وأولها بريطانيا التي إرتبطت بالهند كأهم مستعمرة لها ودرّة تاجها بالشرق. وبذا صارت قناة السويس الممر الأقرب المؤدّي إلى هناك بدلاً عن رأس الرجاء الصالح (Cape of good hope) فإهتبلت هذه الأخيرة الفرص (منها أزمة الدين) ففرضت الوصاية أولا على مصر ثم إحتلتها في ١٨٨٢م كي يصبح اللورد كرومر (Evelyn Baring, 1st Earl of Cromer) المندوب السامي البريطاني هو الحاكم الفعلي لمصر. إذن أصبحت مصر ومعها السودان ملحقين ببنية إستعمارية أضخم ، لتجد المجموعات النيلية التي مثّلت المركزي العروبي في السودان وقد صارت ركائز أساسية في بنية العقل البرجوازي الذي مثلت مصر محمد علي باشا لحمته وسداه ، أقول وجدت فجأة نفسها بعد التطورات الأخيرة على هامش بنية عقل برجوازي عالمي جديدة تسيطر عليها بريطانيا التي سيطرت كذلك لتوها على مصر وبله وبضربة لازب دانت لها السيطرة في السودان. ونتيجة لذلك وجدت مجموعات المركز العروبي في السودان نفسها في حالة إغتراب داخل البنية المسيطرة خصوصا بعد أن دان الأمر للأوروبيين داخل جهاز الحكم والإدارة بالسودان. كذلك أنّ أحد الأسباب الأساسية لحالة الإغتراب التي إجتاحت مجموعات المركز العروبي في السودان تمثّلت في تطور دولي خطير وهو أن نتائج الحرب الأهلية الأمريكية (١٨٦١-١٨٦٥م) والتي إنتهت بإنتصار الشمال الصناعي على الجنوب الزراعي (القطن والتبغ وغيره ) قد تمخضت عن حظر تجارة الرقيق بشكل نهائي بمرسوم أبراهام لنكولن الشهير وهو أمر إنعكس على وضع هذه التجارة عالميا ، إذ أن العالم الصناعي بعكس العالم الزراعي كان يجنح لإبطال تجارة الرقيق التي صارت تؤثر بشكل مريع في تقليص الطلب على البضائع المصنعة نتيجة الإهلاك والإستنزاف البشري الذي تحدثه في المجتمعات المستهدفة ، بعكس العالم الزراعي مثل الجنوب الأمريكي الذي يعتمد في قوته العاملة على الرقيق وليس الميكنة ، كذلك وبعد جنوح القوى الإمبريالية في إقامة مشاريع العمالة المكثفة بالدول المستعمرة نفسها صار محتّماً إبطال هذه التجارة لتوفير العمالة لهذه المشاريع. إذن ساندت بريطانيا كدولة مصنعة أبراهام لنكولن في إبطاله تجارة الرقيق ، وبله أرغمت بريطانيا مصر في ١٨٧٧م للتوقيع على إتفاقية القاهرة القاضية بالحظر النهائي لهذه التجارة ليس في مصر فحسب بل في السودان وإثيوبيا كذلك.
هنا حدث التفتت التدريجي لقاعدة التبادلية في السودان (الريع مقابل الأمان) بين الإدارة التركية (التي لم تعد تركية) ومجموعات المركز العروبي. فلقد مثّلت تجارة الرقيق إبتداءا من دخول الأتراك السودان العصب الرئيسي للإقتصاد في المجتمع السوداني ، ليس للرقيق كسلعة فحسب ولكن الرقيق كحمالين للبضائع الثمينة خصوصا العاج (سن الفيل) والابنوس وريش النعام إذ كانت الابل أغلى سعرا من الرجال المسترقين. لقد تحملت الإدارة التركية عبء دفع الثمن السياسي لحظر تجارة الرقيق وهو ما وضعها في مواجهة حلفائها من تجار الرقيق المحليين الذين بمرور الوقت وصلوا اخيرا لوضع من الأهمية (مادياً وسياسياً) يكاد يوازي رجال الإدارة الأتراك مثل الزبير باشا الذي إستطاع أن يقيم إمبراطوريته الخاصة ليهزم أولا الرزيقات ثم يضم بجيشه مملكة دارفور لصالح الخديوي. كذلك إلياس باشا الذي نصبه غردون باشا مديرا لمديرية كردفان بدلا عن محمد سعيد باشا (جراب الفول) وأحمد بك أبو سن الذي عين مديرا لمديرية الخرطوم وقبله آدم باشا العريفي (من بطون قبيلة دار حامد) الذي أصبح حكمدارا للسودان لدى مبتدأ سبعينيات القرن التاسع عشر كما أورد نعوم شقير في (جغرافية وتاريخ السودان). وهكذا إضمحل تأثير هذه النخبة المستعربة تدريجيا فإنسحبت من قاعدة الحكم في السودان الذي أضحى يسيطر علىه مركز وعي برجوازي جديد له أولويات لم تستطع هذه النخبة إستدماجها وبله تطور التوتر بين هذه الأخيرة والإدارة في السودان إلى أن ظهرت نذر المهدية في البلاد.
محمد أحمد المهدي ظهر كمصلح ديني منتم للبنية المستفيدة من الحكم التركي آنذاك ، فهو من مجموعات الدناقلة المستعربة التي عمل آبائهم مع محمد خير الأورباوي (المراكبية) وهي المهنة التي إمتهنها المهدي نفسه في مقتبل حياته . ولكنه كمستبصر ديني وجد نفسه في حالة إغتراب عن الهموم البرجوازية التي إجتاحت مجتمعه النيلي آنذاك وهي هموم لا تتجاوز إحتياز المنافع المادية. لذا فلم يكن له من مناص سوى الإستجابة لنداء أوّل منادي (عبد الله ود محمد تورشين) للتوجه غربا لكردفان. هناك وجد المهدي الإطار الثقافي والإجتماعي مستعداً لقبول دعوته وتم الإلتفاف الأوّلي حوله خصوصا وأن السيد المكي بوجاهته الدينية والإجتماعية قد مثّل أوّل هؤلاء الملتفين.هل الإلتفاف حول المهدي كان بلا أجندة سياسية وإقتصادية؟.. لقد كان عبد الله ود محمد تورشين جزء من مؤسسة الزبير باشا ود رحمة ولكن لخلاف بين الإثنين حول محاولة الأول إقناع الأخير إستخدام المهدية كرافعة سياسية مع رفض وتعنيف الأخير لود تورشين الذي إتجه شرقا، فقد كان الزبير باشا واثقا من قدرته على إختراق مؤسسة الإدارة التركية في السودان بل مصر نفسها دون أي رافعة وهو ما ندم عليه فيما بعد. هل كان فعلا كل من حمدان ابو عنجة والنور عنقرة وآخرين من (الخطرية) جزء من موسسة الزبير باشا ممن إلتقطهم ود تورشين فيما بعد؟ هل أصبح إلياس باشا ام برير بعد عزله من منصب مدير مديرية كردفان بعد مؤامرة قريبه أحمد بك دفع الله مع محمد سعيد باشا وتحريضهم للشيخ علي كنونة زعيم الغديات ، اقول بعد ذلك صار من أقوى مناصري المهدي!!؟.. هل كان عبد الرحمن النجومي من عتاة تجار الرقيق وقد ألحقت به سياسات غردون أشد الضرر!!؟.. هل كان عثمان دقنة هو المورد الأساسي لهذه التجارة عبر ميناء سواكن إلى الحجاز وقد ألحق توجيه غردون للحامية الإنجليزية بسواكن بمنع ذلك أشد الضرر على تجارته!!!؟..بلا مواربة أن كل ما قيل انفاً هي الحقيقة بالف ولام العهد والتي كان تاريخنا دالة في تجاهلها عمدا أو عبر اللاشعور للحفاظ على توازن المركز العروبي في السودان!!. الثورة المهدية كانت في جزءها الواعي وديناميتها السياسية مؤامرة تجار الرقيق في السودان ضد قاعدة الحكم التي طالما تشاركوها مع حليفهم التركي الذي بدوره قد سيطرت عليه بنية وعي أكبر (الإحتلال البريطاني لمصر).
لقد كان المهدي هو قنطرة هذه المجموعات المناسبة لسحب مجموعات بنية الوعي التناسلي التي طالما تناستها نفس هذه المجموعات وإستغلتها وأفقرتها ونهبت مواردها لصالح المستعمر التركي ، فالخطاب المهدوي يتناسب مع خصائص بنية العقل التناسلي التي مثلتها مجتمعات الغرب والجنوب وجنوب الوسط التي تم إستبعادها من برنامج العطاء طيلة حقبة الحكم التركي لصالح فئات الأتراك والمجموعات المستعربة في الشمال النيلي. فالوعي التناسلي كما يقول أ. الشيح محمد الشيخ في تحليله الفاعلي يسود في ظل تهديد النوع (استنزاف تجارة الرقيق) فيكون نظامه الإجتماعي قائما على مفهوم القرابة وكذلك نفسيا لا يعي الإنسان في ظل هذه البنية نفسه إلا ككائن تناسلي لتعويض الإستنزاف البشري الذي يتعرض له وتكون أبستيمة هذا الوعي (النظام المعرفي) غيبية إتكالية وليس توكلية لذا سادت في السودان آنذاك فكرة إقتراب ظهور المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا وفساداً وهي أطروحة دينية غيبية مستلفة من الإسلام الشيعي وقد إنتقلت إلى البيئة السودانية عبر التصوف الغنوصي المنتشر توا لدى نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر بالسودان. إذن تناسب الخطاب المهدوي مع وعي هذه البنية التي آمنت بالمهدي كمهدي منتظر فعلا ، بينما آمنت مجموعات المركز العروبي في الشمال النيلي في نفس ثنايا هذا الخطاب به كمهدي منتصر بكلمات استاذنا محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه الركيزي (السودان.. المأزق التاريخي وآفاق المستقبل). وهكذا تم تجييش مجتمعات الغرب والجنوب وجنوب الوسط لصالح الثورة الجديدة التي إستطاعت فعلا الإطاحة بالحكم التركي وقتل غردون في ٢٦ يناير ١٨٨٥م كي يبدأ السودان حقبة جديدة لحمتها وسداها بنية العقل التي إستقالت أو أنتحت قبل ستين عاما خلت منذ سقوط حكم البلاط السناري في ١٨٢١م (بنية العقل التناسلي ). إذن ما هي النتائج التي سوف تجنيها قوي المركز العروبي من خلال كل هذا التطور وصاعدا وهو ما سوف نتابعه تباعا ولله المثل الأعلى.. نواصل