كوداويات محمد بلال كوداوي يكتب : *عندما تصرخ الخرطوم من بين السطور… تأملات في نداء الأستاذة سهير عبدالرحيم*
كوداويات
محمد بلال كوداوي يكتب :
*عندما تصرخ الخرطوم من بين السطور… تأملات في نداء الأستاذة سهير عبدالرحيم*
في مقالها الأخير “للناس النتها كعب”، لم تكن الأستاذة سهير عبدالرحيم تكتب فقط، بل كانت تصرخ بوجدان الوطن، وتحمل بين كلماتها خريطة مشاعر أضحت مشوّشة في هذا الشتات الوطني.
لم يكن المقال تقريعًا جافًا، ولا نقدًا غاضبًا من أجل الظهور، بل كان صوتًا جريئًا من امرأة سودانية عرفت الخرطوم جيدًا، وشهدت ما يكفي لتدرك أن ما يحدث اليوم ليس مجرد ظرف طارئ… بل انزلاق مريع عن المركز.
قالت سهير:
“مخجل جداً أن يعود السفير القطري لدى السودان بكامل بعثته إلى مقر سفارته بالخرطوم، في حين أن وزارة الخارجية ما زالت بكامل طاقمها في بورتسودان.”
وهنا لا بد من الوقوف. هذه ليست مقارنة عابرة بين سفير ووزير، بل هي صرخة وطنية تنعى تقهقر حضور الدولة من قلب عاصمتها، وتفضح هشاشة الموقف السيادي الذي جعل من الخرطوم أرضًا مهجورة… إلا من الخراب.
ثم أضافت في سياق موجع آخر:
“مخجل جداً أن يشعر سفير قطر بالأمان في الخرطوم ويتجول بثقة، في حين تستعصم الحكومة بأمان كذوب في بورتسودان.”
وهذا التصوير الدقيق لا يحتاج تعليقًا بقدر ما يحتاج صحوة ضمير، فنحن أمام لحظة فارقة: إمّا أن تُستعاد فيها رمزية الخرطوم كعاصمة حقيقية، أو تُترك نهبًا لصراع التعابير الرمزية، ولقطع بثّ الدولة من داخل أراضيها.
مع ذلك، ومن باب الموضوعية، لا بد أن نُقر أن قرار العودة إلى العاصمة لا يتم بجرة قلم، بل يتطلب حسابات أمنية معقدة، وتقديرات دقيقة. فالمشهد ليس رومانسياً كما يظهر في الصور، بل محفوف بمخاطر استراتيجية، قد تفوق ما نراه من رمزية عالية في عودة السفير القطري.
لكن الغياب الطويل، والصمت الرسمي، والتقاعس عن التواجد الميداني، كلها عوامل تُغذي الشعور بالخذلان الشعبي. وهنا تصبح كلمات سهير ضرورية، بل مُلحّة، لأنها تحاول أن توقظ فينا ما تبقّى من الحس بالواجب.
في ختام مقالها، كتبت الأستاذة سهير:
“الفريق البرهان: المرحلة القادمة تحتاجك كضابط قوات مسلحة يعيد الأمن إلى الوطن والأمان للشعب، ولا تحتاجك كمدني يمارس السياسة من شرفة القصر الجمهوري.”
وهو نداء من العيار الثقيل. لا لأن فيه نقدًا، بل لأنه يحمل توجيهًا أمينًا. فهي لا تطالب بالظهور، بل بالحضور الحقيقي؛ لا بالمظاهر، بل بالقرارات الحاسمة التي تُعيد للدولة هيبتها، وللعاصمة روحها، وللمواطن ثقته.
وهنا، لا يسعنا إلا أن نثمّن هذا الموقف. فالأستاذة سهير عبدالرحيم، في كل ما تكتبه، تبرهن أنها ليست فقط صوتًا نسائيًا وطنيًا صادقًا، بل مرآة تعكس نبض الناس، وتكتب حين يصمت الكثيرون.
تحية لها، ولقلمها، ولغيرتها التي لم تفتر منذ سنوات.
وتحية لكل من لا يزال يحمل على عاتقه قضية الوطن بلا تلوّن، ولا حسابات سياسية ضيقة.
الخرطوم تنتظر، والوطن يئن، والساعة لا تحتمل تأجيل العودة أكثر.
ولكن لتكن عودة مسؤولة، عودة مدروسة، وعودة تُدار من ميدان الخرطوم، لا من شرفات المرافئ المؤقتة .