منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي
آخر الأخبار

لابد من لاهاي وإن عزٌ النصير سلسلة مقالات….. عمر مختار حاج النور الحلقة الخامسة: *محكمة العدل الدولية.. ميزان العدل المطلق أم ساحة للتأثيرات؟*

0

لابد من لاهاي وإن عزٌ النصير
سلسلة مقالات…..
عمر مختار حاج النور

الحلقة الخامسة: *محكمة العدل الدولية.. ميزان العدل المطلق أم ساحة للتأثيرات؟*


يثور تساؤل هام حول مدى حياد محكمة العدل الدولية وإستقلاليتها في إصدار أحكامها. هل تعتبر بحق ميزاناً للعدل لا يتأثر بقوة أو ضعف الدول المتقاضية أمامها؟ أم أنها قد تخضع لإعتبارات أخرى غير قانونية، كالتأثيرات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية؟
هذه التساؤلات تكتسب أهمية خاصة في قضية حساسة ومعقدة كالدعوى التي رفعها السودان ضد الإمارات العربية المتحدة.
فمن الناحية النظرية والقانونية: تعتبر محكمة العدل الدولية الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، ويُلزم قضاتها بالإستقلالية والحياد التام. فهم يُنتخبون بناءً على كفاءتهم القانونية وخبرتهم العملية، وخلال فترة ولايتهم، لا يجوز لهم تلقي تعليمات من أي حكومة أو منظمة. وذلك وفقاً لنص المادة (16) من النظام الأساسي للمحكمة، والتي تقرأ:
“على أنه لا يجوز لأعضاء المحكمة أن يمارسوا أي وظيفة سياسية أو إدارية، ولا أن يشتغلوا بأي عمل آخر ذي طبيعة مهنية”.
كما يُلزم قضاة المحكمة بالقسم بأن يمارسوا مهامهم بنزاهة وتجرد كاملين.
ومع ذلك، في الواقع العملي، لا يمكن تجاهل حقيقة أن المحكمة تتكون من قضاة يمثلون خلفيات قانونية وثقافية متنوعة، ويحملون جنسيات مختلفة. هذا التنوع قد يؤثر بشكل غير مباشر على تفسيرهم للقانون الدولي وتقديرهم للأدلة. كما أن الدول الكبرى والدائمة العضوية في مجلس الأمن لها نفوذ كبير في الأمم المتحدة بشكل عام، وهذا النفوذ قد يمتد بشكل أو بآخر إلى المحكمة، وإن تم ذلك بصورة غير مباشرة وغير معلنة.
إضافة إلى ذلك، تلعب الإعتبارات السياسية والدبلوماسية دوراً في إختيار القضاة وفي المناقشات التي قد تجري خلف الكواليس. فالدول تسعى لإنتخاب قضاة من دول صديقة أو ذات مواقف متوافقة مع مصالحها، كما أن العلاقات الدبلوماسية بين الدول المتنازعة قد تؤثر على كيفية تعامل المحكمة مع القضية، خاصة في القضايا الحساسة التي تحمل أبعاداً سياسية عميقة.
أما بالنسبة للإعتبارات الإقتصادية، فقد يكون لها تأثير أقل مباشرة على قرارات المحكمة، لكن قوة الدولة الإقتصادية قد تمنحها نفوذاً سياسياً ودبلوماسياً أكبر، وهو ما قد ينعكس بشكل غير مباشر على سير القضية.
وبالنظر إلى قضية السودان ضد الإمارات، السودان دولة تعاني من نزاع داخلي وتحديات إقتصادية كبيرة، بينما تعتبر الإمارات دولة ذات نفوذ إقليمي وإقتصادي قوي. هذا التفاوت في ميزان القوى قد يثير مخاوف بشأن مدى قدرة السودان على تقديم حججه بشكل فعال وضمان حياد المحكمة. ومع ذلك، فإن محكمة العدل الدولية تعتمد في الأساس على القانون الدولي والأدلة المقدمة من الأطراف. فإذا إستطاع السودان تقديم أدلة قوية ومقنعة تثبت إنتهاك الإمارات للقانون الدولي، فإن المحكمة ملزمة قانوناً بالنظر في هذه الأدلة وإصدار حكم عادل بناءً عليها، بغض النظر عن الوضع الإقتصادي أو السياسي للدولتين المتنازعتين.
مع كل ماذكر تبقى حقيقة أن تفاوت قوة طرفي النزاع المعروض أمام المحكمة سواء كان تفاوتا سياسيًا أو دبلوماسيا أو إقتصاديا أو عسكريا يلقي بظلاله على حياد المحكمة المفترض، حتى وإن لم يظهر عدم الحياد في مراحل السماع والمداولات فقد يبدو بصورة أكثر وضوحا في مدى الإلتزام وتقبل طرفي النزاع لقرارت وأحكام المحكمة، وهنالك العديد من السوابق القضائية أمام محكمة العدل الدولية يُنظر إليها على أنها شهدت تأثيراً واضحاً للوضع السياسي والدبلوماسي، وإن كان من الصعب في كثير من الأحيان إثبات هذا التأثير بشكل قاطع، ومن تلك السوابق:
1/ قضية الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة الأمريكية (1986):
على الرغم من أن المحكمة حكمت لصالح نيكاراغوا وأدانت الولايات المتحدة بتهمة التدخل في شؤونها، إلا أن الولايات المتحدة رفضت الإعتراف بالإختصاص الإلزامي للمحكمة في هذه القضية وسحبت لاحقاً إعترافها به. يُنظر إلى هذا الرفض على نطاق واسع على أنه استجابة سياسية لقرار لم يكن في صالحها، مما يبرز محدودية قدرة المحكمة على إنفاذ قراراتها ضد الدول الكبرى.
2/ قضية شرعية استخدام الأسلحة النووية (الرأي الاستشاري، 1996): طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة رأياً إستشارياً من المحكمة بشأن شرعية إستخدام الأسلحة النووية في ضوء على القانون الدولي. كان هذا الموضوع ذا حساسية سياسية وعسكرية بالغة. إنتهت المحكمة إلى رأي غير حاسم، مشيرة إلى عدم وجود حظر شامل على إستخدام الأسلحة النووية في جميع الظروف، لكنها أكدت على الإلتزام بمتابعة المفاوضات لنزع السلاح النووي. يُنظر إلى هذا الرأي على أنه محاولة لتجنب مواجهة مباشرة مع الدول النووية الكبرى.
3/ قضية الجدار العازل في الأراضي الفلسطينية المحتلة (الرأي الاستشاري، 2004): أصدرت المحكمة رأياً استشارياً يدين بناء إسرائيل للجدار العازل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، معتبرة إياه مخالفاً للقانون الدولي. على الرغم من ذلك، لم تمتثل إسرائيل للرأي الإستشاري، وإستمرت بناء الجدار. يرى البعض أن عدم إمتثال إسرائيل يعكس تأثير الوضع السياسي المعقد في المنطقة وعدم قدرة المحكمة على فرض قراراتها في ظل غياب إرادة سياسية دولية قوية.
4/ قضايا “شرعية استخدام القوة” ضد صربيا والجبل الأسود (1999-2004):
رفعت عدة دول أعضاء في حلف الناتو دعاوى ضد صربيا والجبل الأسود (يوغوسلافيا آنذاك) بسبب حملة القصف التي شنها الحلف خلال حرب كوسوفو. رفضت المحكمة إختصاصها في معظم هذه القضايا لأسباب إجرائية، لكن البعض رأى أن هذا الرفض كان مدفوعاً أيضاً بإعتبارات سياسية تتعلق بشرعية التدخل الإنساني وحساسية الإجراءآت العسكرية التي إتخذها حلف الناتو دون موافقة مجلس الأمن.
5/ قضية الأنشطة المسلحة على أراضي الكونغو الديمقراطية ضد أوغندا (1999-2005): على الرغم من أن المحكمة أدانت أوغندا لغزوها وإحتلالها لأجزاء من الكونغو الديمقراطية، إلا أن تنفيذ الحكم المتعلق بالتعويضات إستغرق وقتاً طويلاً وواجه صعوبات، مما يشير إلى التحديات العملية التي تواجهها المحكمة في إنفاذ قراراتها على الدول القوية أو تلك التي تشهد نزاعات داخلية.
من المهم التأكيد على أن هذه الأمثلة لا تعني بالضرورة أن قرارات المحكمة كانت مفروضة عليها بشكل مباشر من قوى سياسية، بل تشير إلى حالات يُنظر فيها إلى أن السياق السياسي والدبلوماسي الأوسع قد لعب دوراً في تشكيل القضية، أو في كيفية تعامل الأطراف مع قرارات المحكمة وتنفيذها. فالمحكمة تعمل في بيئة دولية معقدة، وقراراتها لا يمكن فصلها تماماً عن الحقائق السياسية القائمة، ومع ذلك، فإن سعي المحكمة الدائم لتطبيق القانون الدولي بنزاهة يبقى هو الأساس الذي تقوم عليه شرعيتها.
ختاماً، يمكن القول أن محكمة العدل الدولية تسعى جاهدة للحفاظ على حيادها وإستقلاليتها، وتشكل الإعتبارات القانونية الأساس في قراراتها، ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود تأثيرات غير مباشرة للعوامل السياسية والدبلوماسية، وإن كانت هذه التأثيرات غالباً ما تكون خفية وغير معلنة. يبقى الأمل معقوداً على نزاهة القضاة وإلتزامهم بالقانون الدولي في تحقيق العدل في قضية السودان ضد الإمارات، وإظهار أن القانون فوق كل الإعتبارات الأخرى.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.