محمد فتح الرحمن بشير يكتب : . *الفن والعلاج النفسي الجماعي .. كيف تُسهم الألوان .. في تجاوز الصدمات؟*
محمد فتح الرحمن بشير يكتب :
. *الفن والعلاج النفسي الجماعي .. كيف تُسهم الألوان .. في تجاوز الصدمات؟*
حين تضيق الكلمات وتغيب القدرة على التعبير ، تولد الألوان كلغة موازية، قادرة على ملامسة الجراح التي لا تُرى. من بين كل الوسائل العلاجية التي تُستخدم لمداواة المجتمعات الخارجة من الحروب أو الكوارث، فيبرز الفن التشكيلي كأداة لا تكتفي بملاحقة الألم، بل تعيد تشكيله وتحويله إلى طاقة للبناء والتصالح مع الذات والآخر.
تمر المجتمعات المصابة بصدمات جماعية بمراحل معقدة من الحزن ، تبدأ بالإنكار ثم الغضب، قبل أن تصل إلى القبول وإعادة التشكل. وهنا الفن ، لا سيما الفن البصري، يُعد أحد أسرع الوسائل لتسهيل هذا الانتقال. والسر يكمن في اللون. إذ كشفت دراسات علم الأعصاب أن الألوان تُنشط مناطق محددة في الدماغ، تؤثر على إفراز الهرمونات، وتعيد تنظيم المزاج.
فاللون الأزرق، على سبيل المثال، يُحفز الشعور بالطمأنينة، ويُبطئ من نشاط الجهاز العصبي، في حين أن الأخضر يرمز إلى النمو والتوازن، ويُعيد ربط الإنسان بالطبيعة. أما الأصفر والبرتقالي فيمنحان طاقة متفائلة تضيء مناطق الألم وتبني حولها أفقًا جديدًا. لهذا، حين يختار الفنانون ألوانهم في المساحات الجريحة، فهم لا يزيّنون، بل يعالجون.
العلاج بالفن ليس جديدًا، لكن ما يميّز ما بعد الكوارث هو تحوّل هذا العلاج من فعل فردي إلى طقس جماعي. فعندما يشارك الناجون في رسم جدارية، أو يضع طفل فرشاته على حائط مهدوم، فهو لا يعبر فقط عن مشاعره، بل يعيد تموضعه في العالم. يشعر بأنه موجود، مؤثر، قادر على إعادة كتابة فصل .. من القصة.
وتُشير أبحاث علم النفس المجتمعي إلى أن مشاركة مجموعات متأثرة في نشاط فني مشترك يعزز من شعور الانتماء والتعاضد، ويكسر العزلة النفسية التي تفرضها الصدمة. كما أن مراقبة العمل الفني بعد إنجازه – سواء كانت لوحة، أو جدارية، أو منحوتة – يمنح الأفراد شهادة مرئية على قدرتهم على التجاوز، وعلى وجود شيء جميل ناتج عن المعاناة.
..وفي الحقيقة الألوان لا تمحو الماضي ، لكنها تخلق منه سردية جديدة. وهنا تكمن قوتها. إنها لا تنكر الألم، بل تُطوّعه وتعيد تقديمه بشكل يسمح بالتصالح. في المدن التي مرت بالكوارث ، مثل الخرطوم أو غزة أو سراييفو سابقًا.. ، ظهرت مبادرات فنية حوّلت الركام إلى لوحات، والجدران إلى دفاتر حية تسرد وجعها ولكن بلغة الأمل.
هذا التفاعل الإبداعي مع المأساة يُشبه التنفس الجماعي بعد الاختناق. الفن لا يُنقذ المدن من الحرب، لكنه يُنقذها من النسيان، من التكلس، من التشظي.
وهو بذلك يُسهم في بناء إنسان جديد، أكثر وعيًا، أكثر تعاطفًا، وأشد رغبة في الحياة.
فحين تلتقي العلوم النفسية مع الرؤى الفنية، تتشكل وصفة شفاء فريدة. في تلك المساحة التي تلتقي فيها الفرشاة بالقلب، واللون بالذاكرة، يخلق الإنسان أدواته الخاصة للتجاوز، ولإعادة الإعمار من الداخل قبل الخارج. وفي طريق التعافي الجماعي، لا تقل قيمة الألوان عن الإسمنت، بل قد تتفوق عليه… لأنها تبني حيث لا يرى أحد…