د. ياسر محجوب الحسين يكتب : *مضيق ملوك الفُرْس: ممرّ النار الملتهب*
د. ياسر محجوب الحسين يكتب :
*مضيق ملوك الفُرْس: ممرّ النار الملتهب*
بينما تتزاحم الناقلات في مياه الخليج حاملةً شحنات النفط والغاز إلى العالم، تبقى فتحة واحدة ضيقة هي شريان الحياة: مضيق هرمز. لقد صوّت البرلمان الإيراني، اليوم الأحد، مبدئيًا على إغلاق مضيق هرمز الحيوي، بحسب ما أفاد التلفزيون الإيراني وقناة “برس تي في” الرسمية. لكن القرار لم يُحسم بعد، إذ يتوقف تنفيذه على مصادقة المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني. يأتي هذا التطور وسط تصاعد التوترات الإقليمية بعد ضربة أمريكية استهدفت منشآت نووية إيرانية.
لا يتجاوز عرض مضيق هرمز 40 كيلومترًا، لكنه يتحكم في نحو 20% من صادرات الطاقة العالمية. واليوم، يلوح في الأفق ما كان يُنظر إليه لعقود ككابوس مستبعد: إيران تلوّح بإغلاقه.
لكن السؤال الأعمق من مجرد التهديد هو: لماذا الآن؟ ولماذا تبدو إيران فجأة مستعدة للمخاطرة بكل شيء؟
لأشهر طويلة، بل لسنوات، ظل العالم يتابع بصمت شبه مطبق الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي الإيرانية: اغتيالات، تفجيرات، اختراقات سيبرانية، وقصف مباشر استهدف مواقع داخل العمق الإيراني. أما الولايات المتحدة، شريكة تل أبيب في هذا العدوان، فلم تُخفِ دعمها السياسي واللوجستي، بل شاركت بالأمس بتنفيذ ضربات على مواقع نووية إيرانية لا يعلم مدى آثارها الكارثية حتى الآن.
وفي المقابل؟ لا شيء. لا بيان شجب من الأمم المتحدة، لا موقف رادع من القوى الكبرى، ولا حتى كلمة حق من أولئك الذين يملأون الدنيا ضجيجا حين يتعلق الأمر بغيرهم. صمتٌ دوليٌ مريب، وانحياز فجّ لقوى الغطرسة، جعل إيران ترى نفسها في الزاوية الأخيرة من الحلبة.
ومن الزاوية، حين يُحاصر المقاتل ويُمنع من الخروج، إما أن يسقط أو يضرب. وطهران اختارت الخيار الثاني.
إغلاق مضيق هرمز ليس مجرد رد فعل غاضب، بل خطوة محسوبة تُدرك إيران جيدًا أنها ستؤلم الجميع:
• الولايات المتحدة، التي تهيمن على أمن الملاحة البحرية في الخليج، ستجد نفسها في مواجهة بحرية مباشرة، في منطقة مكتظة بالقواعد والأساطيل.
• الدول الأوروبية ستذوق مرارة اضطراب سلاسل التوريد، وسترتفع أسعار النفط والغاز لتشعل أسواقها المرهقة أصلًا.
• دول الخليج هي الأخرى ستكون ضحية هذا الإغلاق، إذ تمر معظم صادراتها من النفط عبر هذا المعبر الحيوي.
لكن قبل الخوض في أفق التصعيد، لنتوقف لحظة عند دلالة الاسم ذاته.
لعلها مفارقة لطيفة أن هذا المضيق، الذي بات عقدة الجغرافيا السياسية في العالم، يحمل اسمًا ضاربًا في عمق الحضارة الفارسية. فكلمة “هرمز” ليست عربية الأصل، بل فارسية معرّبة، مشتقة من اسم الإله الأعلى في الزرادشتية: “أهورا مزدا”.
وكان ملوك فارس الكبار يُلقَّبون بـ”هرمز” أو “الهرمزان”، وبهذا، فإن المضيق يحمل في طيّاته ذكرى إمبراطورية كانت تتحدّى العالم من الشرق، ثم تعود اليوم إلى الواجهة عبر جمهورية ترفض الخضوع.
إيران تعرف ما تفعل: إنها لا تُغلق مجرد معبر مائي، بل تفتح “باب التاريخ” على قرون من الصراع بين الشرق والغرب… القديم منها والحديث.
وإذا حزمت طهران رأيها على هذه الخطوة، فإن التداعيات ستكون فورية وصاخبة:
• اقتصاديا: سترتفع أسعار النفط إلى مستويات قياسية (قد تتجاوز 150 دولارًا للبرميل)، ما ينذر بموجة تضخم عالمية وكساد اقتصادي.
• عسكريا: قد تردّ واشنطن بقوة، وربما عبر قصف المواقع الإيرانية الساحلية، مما يُشعل حربًا بحرية في الخليج.
• سياسيا: ستتغير توازنات القوى، وقد تستثمر موسكو وبكين هذا التصعيد لتعزيز حضورهما في الخليج كموازِن للهيمنة الغربية.
ما يُحرك إيران ليس جنوحًا نحو التصعيد من أجل التصعيد، بل محاولة لتكسير جدار الصمت الدولي.
فقد عجزت طهران عن جرّ العالم إلى أي موقف متزن يطالب بكفّ يد العدوان الإسرائيلي–الأمريكي، أو يندد باغتيال علمائها وقصف منشآتها.
وفي ظل هذا الخذلان، بات إغلاق مضيق هرمز بمثابة ضربة على الطاولة، تقول من خلالها إيران: “إذا لم يتحرك أحد لردع من يعتدي علينا، فلن يبقى الممر آمنًا لمن يشاركه في العدوان أو يباركه بالصمت.”
حتماً، اليوم الكاميرا على هرمز.. لكن العدسة الأوسع على الضمير العالمي.
فحين تتحول الملاحة البحرية إلى رهينة للسياسة، ويُداس القانون الدولي بقدم “الاستثناء الأمريكي”، يصبح البحر مرآةً أخيرة لعجز البشرية عن قول كلمة حق.
فإيران، رغم تحفظات الكثيرين على سياساتها، ليست وحدها في قفص الاتهام.
هناك قوى غاشمة وطاغية، تضرب وتقتل وتعاقب، ثم تطلب من الضحايا الصمت.
ولعلّ في “عاصفة مضيق الملوك الفُرْس”، إن اشتدت، صفارة إنذار تقول:
لا بحر يُفتح إلى الأبد، إن أُغلقت في وجه العدل كل الطرق.
22/06/2025
للاطلاع على المزيد من سلسلة “أمواج ناعمة”:
https://shorturl.at/YcqOh