*الإدارات الأهلية وتطوير المجتمع نحو المدنية: مسار متدرّج لا يقفز على الواقع* بقلم : موسى داؤد يحي
*الإدارات الأهلية وتطوير المجتمع نحو المدنية: مسار متدرّج لا يقفز على الواقع*
بقلم : موسى داؤد يحي
إنّ السير في درب المدنية ليس عبورًا سطحيًا فوق جغرافيا البنى، ولا قفزة في الفراغ باسم الحداثة، بل هو انبثاق داخلي من عمق الذات الجمعية، ومخاض وعيٍ يتشكل على مهل، يتخلله التأملُ والتجربةُ والصبرُ النبيل. المدنية ليست زينةً تُطلى على واجهات المؤسسات، بل روحٌ تسري في العروق، ونسغٌ يروي جذور المجتمع، لتورق منه أغصان العدالة، وتُثمر ظلال المساواة. وفي هذا المسار المتأنّي، الذي يرفض القطيعة ويخشع للتراكم، تنهض الإدارات الأهلية من قلب الأرض، لا ككياناتٍ تقليديةٍ بالية، بل كجسورٍ تصل بين الذاكرة والمستقبل، بين سيرة القبيلة وهموم الوطن، بين صوت الجدّ الحكيم ونداء الحاضر الطامح.
فهي ليست طيفًا من زمنٍ غابر، ولا مظلةً تُرفع عند هبوب العواصف فحسب، بل هي كائنٌ اجتماعيّ ينبض بالحكمة، يستمد شرعيته من الأرض والناس، من الساحات لا الشاشات، ومن الأهازيج لا المؤتمرات. إنّها ذاكرةُ الجماعة، ومشورةُ العقلاء، ومحرابُ التصالح بين الخصوم، وهي التي عرفت كيف تحكم الدم بالعقل، وتُطفئ نيران الخصومة بالعرف، وتحرس النسيج الأهلي من التمزّق، حين غابت الدولة أو تواطأت.
ومن هنا، فإنّ تطوير هذه الإدارات لا يكون بهدمها ولا بتجاوزها، بل بالتماهي مع روحها، وإعادة صقلها بنَفَس العصر، دون أن تُنتزع من تربتها. فالتدرّج هنا ليس خيارًا تنظيميًا فحسب، بل هو ضرورة وجودية، تقي المجتمع من الانفصام، وتحميه من التغريب القسري. إنّ مشروع التحديث لا ينجح إذا أدار ظهره لوجدان الناس، وإذا لم يكن مدّ الجسور فيه أسبق من رفع الشعارات، وإذا لم تُفهم القيم الروحية والخصوصيات الثقافية بوصفها جزءًا من حلٍّ لا عائقًا لطموح.
فالقيم الصوفية التي تسكن أعماق مجتمعاتنا، ليست هامشًا روحيًا معزولًا، بل هي طاقة لينة، تلجم الغلظة وتغذي التسامح، وتُهذّب الغضبَ بالعفو، والغرورَ بالتواضع، والغلبةَ بالمحبة. وإن إدماج هذه الروح في مشروع المدنية، لا يصنع فجوة بل يُغلقها، ولا يُثير تناقضًا بل يُزيله، فتغدو المدنية امتدادًا طبيعيًا لا انقلابًا فجائيًا. ولا يُؤتى هذا التحوّل بالعنف الرمزي ولا بتعالي النخب، بل بخطابٍ يخرج من القلب إلى القلب، ويُبنى على الإنصات لا الإملاء، وعلى التدرّج لا القفز، وعلى التهذيب لا القطيعة.
✦ فصول التدرّج: من التشخيص إلى التكامل ✦
يبدأ الإصلاح من التشخيص، من نظرةٍ واعية تُبصر مكامن القوة قبل مكامن الضعف، وتُدرك أنّ الإدارة الأهلية لا تصلح إلا بمن يُديرها، وأنّ الإصلاح يبدأ من الإنسان لا من النصوص. فكان لا بد من تأهيل الزعامات، لا بنزع العمامة من رؤوسهم، بل بزرع الحكمة في قلوبهم، ولا بمحو إرثهم، بل بتطعيمه بفهم العصر. يُزرع فيهم وعي الحوكمة، ومبادئ الشفافية، ولغة القانون، وفنون التفاوض، فيغدون لا حراس ماضٍ راكد، بل طلائعَ عهدٍ جديد.
ثم ننتقل إلى دمج الممارسة المدنية في الأدوار اليومية، لا بفرضها كأمرٍ واقع، بل ببسطها كمكسب إنساني، فتدخل الشفافية في توزيع الحقوق، والمشاركة في اتخاذ القرار، ويُفسَح المجال للشباب والنساء، لا كترضية بل كواجب. وهنا، لا بد من خطابٍ يُراعي الوجدان، ويُحاكي الروح، لا أن يُدغدغ الألفاظ ويستنجد بالنظريات الجافة.
ثم تأتي مرحلة الهيكلة القانونية، حيث يُعاد رسم العلاقة بين الإدارة الأهلية والدولة، لا كخصمين بل كشريكين، وتُسنّ القوانين التي تحفظ للناس كرامتهم، وتضمن للإدارة مشروعيتها، وتُقيم ميزان الرقابة على الجميع دون إقصاء أو إفراغ.
ثم تختم الرحلة بالاندماج في مشروعات النهضة: في التعليم، في الصحة، في التنمية الريفية، فتغدو الإدارة الأهلية شريكًا لا تابعًا، فاعلًا لا مفعولًا به، ضميرًا اجتماعيًا يُغني المشهد، لا ديكورًا يُجمّله.
✦ في النموذج النبوي: دروس التدرّج والإصلاح ✦
وقد ضرب لنا رسول الله ﷺ أروع الأمثلة في إصلاح البنية التقليدية، حين لم يُلغِ القبيلة، بل هذّبها، ولم يسخر من الزعامة، بل وجّهها، ولم يحطّ من شأن المجالس، بل رفعها إلى مصاف الشورى. فغدت العصبية نصرةً للحق، والزعامة طريقًا للعدالة، والمجتمع القبلي نموذجًا في السلم الأهلي. بهذا التدرّج، تحوّلت الجذور إلى أجنحة، والماضي إلى أرضيةٍ صلبةٍ يبنى عليها المستقبل.
✦ خاتمة: التدرّج سبيلنا ومدنية القيم غايتنا ✦
إنّ التغيير لا يكون باجتثاث الجذور، بل بإروائها بماء الوعي، ولا بالتنكر للماضي، بل بتحويله إلى دربٍ للغد. فالإدارات الأهلية ليست عائقًا في وجه المدنية، بل بوابةٌ تُفتح إذا حَسُنَ المفتاح. والمفتاح هو الفهم، هو الاحترام، هو التدرّج، هو الإيمان بأنّ النهضة تُبنى بالكلمة الصادقة، لا بالشعار العالي، وبالخطوة الراسخة، لا بالقفزة الطائشة.
✦ المدنيّة: سموٌّ في الوعي، ونقاءٌ في السلوك ✦
المدنيّة ليست هندامًا نتزيّن به، ولا مصطلحًا نُزخرف به الخطاب، بل هي خُلقٌ رفيع، ينبثق من أعماق الإنسان، فتغدو حياته مرآةً لفكره، وسلوكُه مرآةً لضميره. أن تكون متمدنًا، هو أن تحترم القانون وإن غاب الرقيب، وأن تُنصت للرأي الآخر لا لتردّ عليه، بل لتفهمه. هو أن ترى في اختلافك مع الناس فرصةً للحوار، لا مدعاةً للخصام، وأن تحبَّ لوطنك ما تحبّ لروحك: الهدوء، النظام، العدالة، والجمال.
المدنيّة هي أن تفتح الباب بيدك لمن يلحق بك، وأن تُزيّن الحيّ بنظافتك قبل أن تُزيّن المنزل، أن تعتذر دون كبرياء، وتُسامح دون مِنّة، وتتنازل عن جزء من حقك إنْ كان في ذلك تمامُ السلام. هي أن تبني قبل أن تنتقد، وأن تزرع قبل أن تشتكي، وأن تكون قدوةً في التهذيب لا في التنظير.
فمن أراد أن يرتقي، فليبدأ بنفسه، وليجعل من نفسه مرآةً صغيرةً تُعكس فيها صورة المدينة الكاملة، وليتذكّر أنّ المدنية لا تُستورد، ولا تُمنح، بل تُكتسب، وتُمارس، وتُعاش، وتُنسج خيطًا خيطًا في نسيج الحياة اليومية. فبذلك وحده، وبذلك فقط، تتحوّل المجتمعات من القوالب إلى القيم، ومن الشعارات إلى النهضة الحقيقية.
هكذا تُبنى المدن في العقول قبل أن تُشاد على الأرض، وهكذا يُكتب التاريخ حين تسير المجتمعات بخطى الوعي، لا بصخب العجلة، وتهذيب السلوك، لا بصراع الشعارات.