من أعلى المنصة / ياسر الفادني *الخرطوم بلا بنادق*
من أعلى المنصة /
ياسر الفادني
*الخرطوم بلا بنادق*
في خطوة طال إنتظارها، صدر قرار من هيئة الأركان بتفريغ العاصمة من جميع الكيانات المسلحة والقوات المقاتلة خلال أسبوعين ، قرار لا يشبه سابقاته، لا في التوقيت، ولا في الجدية التي تسكن بين سطوره، الخرطوم التي تحوّلت إلى ثكنة متداخلة، وفسيفساء من البنادق المتقاطعة، أمامها الآن فرصة نادرة لتستعيد روحها المدنية، ومكانتها كعاصمة لدولة وليست لسلاح
من الناحية الأمنية، يمثل هذا القرار نقطة تحوّل حقيقية. تفريغ الخرطوم من الجماعات المسلحة يعيد التوازن المفقود بين الدولة والمجتمع ، فغياب السيطرة الأمنية، و إنتشار السلاح خارج نطاق المؤسسة الرسمية، شكّل أكبر تهديد للمدنيين، وأنتج بيئة رخوة خصبة للجريمة، والابتزاز، والانفلات الذي عجزت كل الأجهزة الأمنية عن إحتوائه ، بمجرد مغادرة هذه القوات، ستنخفض درجة التوتر العام، وتعود إمكانيات الشرطة والسلطات المدنية لممارسة دورها دون خوف من صدام مع جماعة مسلحة
أما من الناحية العسكرية، فالمغزى أكبر، هذا القرار لا يعني فقط إعادة الإنتشار، بل هو إعلان صريح بأن العاصمة ليست ميداناً للحرب، في أعراف الجيوش المحترفة، تبقى العواصم مناطق محظورة على المواجهات، حفاظاً على السيادة ومرتكزات القرار السياسي، وعندما تأمر هيئة الأركان بذلك ، فهي ترسل رسالة مزدوجة: للمواطن بأن الدولة عادت تتحكم في زمام الأمر، وللقوات النظامية ذاتها بأن الحرب لها ساحاتُها، والعاصمة لها حرمتها
المكاسب المحتملة ليست فقط في الأمن والميدان، بل في البنية المدنية نفسها، العاصمة لا تُبنى تحت أزيز الرصاص، لا مدارس تُفتح ولا مؤسسات تُدار ولا حياة تنبض وسط المليشيات، إعادة التطبيع المدني تبدأ من هذه النقطة بالضبط: أن تُخرج السلاح وتُدخل القانون، أن تُستبدل الحواجز العسكرية بإشارات المرور، والمظاهر القتالية بالأزياء الرسمية للدولة، لا بزات المليشيات
لكن يبقى التحدي الأكبر في التنفيذ، فهل تمتلك الدولة ما يكفي من القدرة والجدية لإنفاذ هذا القرار؟ وهل ستذعن كل الكيانات المسلحة أم ستناور كما إعتادت؟ إن لم يرافق هذا القرار إرادة حقيقية تُمسك الأرض وتفرض القانون، فستتحول المهلة المعلنة إلى مجرد رقم آخر في أرشيف الفوضى السودانية
إني من منصتي انظر …..حيث أري…. أن هذه الخطوة، لو كُتب لها النجاح، أقرب ما تكون إلى عودة الدولة من منفاها الطويل، الخرطوم تستحق أن تعود عاصمة، لا معسكراً.