همسه وطنية / د. طارق عشيري *هندسة العلاقات الخارجية.. مدخل لانقاذ السودان*
همسه وطنية /
د. طارق عشيري
*هندسة العلاقات الخارجية.. مدخل
لانقاذ السودان*

في عالم يتسم بالتعقيد وتشابك المصالح، ونحن في السودان بعد الحرب الكرامة حيث عرفنا العدو من الصديق احوج مانكون الي بناء علاقات خارجية ليست مجرد تبادل دبلوماسي تقليدي أو لقاءات بروتوكولية، بل أصبحت علماً قائماً بذاته يحتاج إلى هندسة دقيقة ورؤية استراتيجية عميقة. فالدول الناجحة هي التي تنظر إلى علاقاتها الخارجية باعتبارها أداة لبناء النفوذ وتعزيز المصالح الوطنية، وليست مجرد رد فعل على الأحداث. إن “هندسة العلاقات الخارجية” تعني إعادة صياغة طريقة تعامل الدولة مع محيطها الإقليمي والدولي من خلال توازن مدروس، ومرونة تكتيكية، وصلابة في المبادئ، بما يضمن لها مكانة فاعلة في الساحة العالمية. بالنسبة للسودان، تبرز الحاجة إلى هذا النهج كضرورة ملحة في ظل التحديات الراهنة والفرص الكامنة، من أجل بناء شبكة علاقات تقوم على الاحترام المتبادل، وتحقيق المنافع المشتركة، ودعم مسيرة السلام والتنمية.
يمر السودان اليوم بمرحلة مفصلية من تاريخه، حيث تداخلت الأزمات الداخلية مع التحولات الإقليمية والدولية، مما جعله في أمسّ الحاجة إلى إعادة صياغة علاقاته الخارجية على أسس جديدة. هذه العملية يمكن تسميتها بـ”هندسة العلاقات الخارجية”، وهي ليست مجرد شعارات دبلوماسية، بل رؤية استراتيجية متكاملة تقوم على المصلحة الوطنية أولًا.
على السودان أن يحدد من هم شركاؤه الحقيقيون في هذه المرحلة. فالأولوية يجب أن تُمنح للدول والجهات القادرة على المساهمة في إعادة الإعمار ودعم الاستقرار، لا لمن يبحثون فقط عن النفوذ السياسي أو المكاسب الآنية.
الارتماء في محور واحد أثبت فشله عبر العقود الماضية. السودان يحتاج إلى دبلوماسية متوازنة، لا تقطع شعرة معاوية مع أي طرف، وفي ذات الوقت تحافظ على استقلالية القرار الوطني.
القوة الاقتصادية هي لغة العالم اليوم. لذلك على السودان أن يقدّم نفسه كأرض استثمارية خصبة، بموارد هائلة وفرص نادرة، بدلًا من حصر صورته في الأزمات الإنسانية والنزاعات.
سنوات من الصراعات والاضطراب جعلت ثقة العالم في السودان مهزوزة. استعادتها تبدأ ببناء دولة مؤسسات، وسياسات واضحة، والتزام جاد بالمواثيق والاتفاقيات الإقليمية والدولية.
إثيوبيا رغم فقرها النسبي وضعف بنيتها التحتية، استطاعت عبر سياسة خارجية نشطة أن تتحول لمركز استراتيجي للاتحاد الإفريقي، وأن تجذب استثمارات ضخمة في الطاقة والبنية التحتية، خصوصًا من الصين.
رواندا بعد مأساة الإبادة الجماعية عام 1994، أعادت بناء صورتها الخارجية عبر خطاب يقوم على المصالحة الوطنية والانفتاح الاقتصادي، حتى صارت اليوم من أسرع الاقتصادات نموًا في إفريقيا.
تواجدي في سلطنة عُمان جعلني اتابع نهاجها السياسي وقد اتبعت سياسة الحياد الإيجابي، فلم تدخل في صراعات المحاور، وأصبحت وسيطًا موثوقًا في قضايا إقليمية معقدة. هذا التوازن جلب لها احترامًا دوليًا واستثمارات نوعية.
هذه التجارب تثبت أن “هندسة العلاقات الخارجية” ليست مجرد نظرية، بل أداة عملية للنهضة إذا ما استُخدمت بذكاء وواقعية.
إن هندسة العلاقات الخارجية ليست ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية للسودان حتى يستعيد مكانته في الإقليم والعالم. ومن دونها سيظل رهين الأزمات الداخلية وتدخلات الخارج. المطلوب اليوم قيادة ذات رؤية، تعرف كيف تجعل من السودان “شريكًا مطلوبًا”، لا “دولة متروكة على الهامش”. سودان مابعد الحرب اقوي واجمل