منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

كتب العميد م دكتور محمد زين  ‘رجال حول القوات المسلحة (44)* *الشهيد اللواء الركن أبو عبيدة فضل الله* 

0

كتب العميد م دكتور محمد زين

 

‘رجال حول القوات المسلحة (44)*

 

*الشهيد اللواء الركن أبو عبيدة فضل الله*

 

(حُضُورٌ إِذَا غِبنا وَغَيبٌ حُضُورُنا وَذَا عَجَبٌ فَليَعجَبِ المُتَعَجِّبُ)
القول للـ (الشيخ المجذوب بالدامر)

يا منايا حوّمي حول الحمى واستعرضينا واصطفي
كل سمح النفس بسام العشيات الوفي
الحليم العف كالأنسام روحا وسجايا
أريحي الوجه والكف إفتراراً وعطايا
فإذا لاقاك بالباب بشوشا وحفي
بضمير ككتاب الله طاهر
انشبي الاظفار في أكتافه واختطفي
وأمان الله منا يا منايا
كلما اشتقت لميمون المحيا ذي البشائر .. شرّفي
تجدينا مثلا في الناس سائر
نقهر الموت حياة ومصائر
هذه اجنابنا مكشوفة فليرم رامي
هذه أكبادنا لُكها وزغرد يا حقود
هذه أضلاعنا مثلومة وهي دوامي
وعلى النطع الرؤوس
فاستبدي يا فؤوس
وادخلي أبياتنا واحتطبي
وأديري يا منايانا كؤوسا في كؤوس
من دمانا واشربي
ما الذي أقسى من الموت؟ فهذا قد كَشفنا سره
واستسغنا مره
صدئت آلاته فينا ولا زلنا نعافر
ما جزعنا ان تشهانا ولم يرض الرحيل
فله فينا اغتباق واصطباح ومقيل
آخر العمر قصيراً ام طويل
كفن من طرف السوق وشبر في المقابر
حين يُذكر اسم اللواء الركن أبو عبيدة فضل الله إبراهيم، تتوقف الكلمات إجلالاً، لا لجسارته العسكرية فقط، ولا لحكمته الأمنية والاستخبارية وحدها، بل لما اختزلته شخصيته من قيم نادرة في رجل واحد: القائد، المجاهد، المفكر، العابد، الإنسان، الخلوق، الودود، التقي، النقي: علوٌّ في الحياة وفي الممات لحقٌّ أنتَ إحدى المعجزات.
رغم أنّ الموت حق وسبيل الأولين والآخرين، لكن أصدقكم القول: ارتعشت وارتجفت وأصابتني الدهشة والحيرة عند سماع خبر استشهاد الأخ العزيز أبو عبيده فضل الله. فهي مصيبة كبيرة حلت بي، واسترجعت قول الله تعالى (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون).
كان الشهيد أبو عبيده يزورني وأزوره، والفضائل لا تفارق منزله إن زارني فبفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له كما قال الشافعي عن تلميذه ابن حنبل، جمعتني به صداقة نقيّة، ومجالسات عامرة بالحكمة، ونقاشات حلوة فكرية وعلمية وعملية كان لطيفاً وديعاً، قسيماً وسيماً، يألف ويُؤلف، كما في الحديث النبوي الشريف (المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس). كان أينما حلّ وعمل… نفع، يُنبت الخير من حوله، ويزرع الاحترام حيثما سار.
مشرق الوجنة ضحاك الثنايا والفم
يسرج الساعات مهراً لاقتحام القمم
سابحاً في غرة للهرم
نشأ في ولاية القضارف، في بيت علم ودين فوالده الكريم كان ومازال يقيم دروس العلم في المساجد والساحات العامة. عاش في بيئة تُعلي من الكرامة، وتُغذّي العقل، وتُهذب النفس، فانعكست تلك القيم في شخصيته منذ نعومة أظفاره. التحق بالكلية الحربية ضمن الدُفعة (41) التي عُرفت بانضباطها العالي وتفوقها اللافت.
منذ لحظاته الأولى في القوات المسلحة، كان واضحاً أن هذا الشاب القادم بهدوئه وتفوقه، سيكتب اسمه في سجل القادة العظام. تميّز بالانضباط، الحنكة، الذكاء، والدهاء، والهدوء الذي يُربك الخصوم ويغيظ الأعداء ويُقنع الأصدقاء. كان يردد
واجب الأوطان داعينا
ندأب ليل نهار، نعمل ونبذل كل مساعينا
نحن الحزم رائدنا، والإقدام مبادينا
تنقل بين وحدات الاستخبارات في السودان، حتى صار اسمه مقروناً بكل ملف حساس، وكل مهمة دقيقة. لم يكن هناك وحدة استخباريه إلا وترك فيها بصمة ومنهجاً. قاتل في بداية حرب الكرامة في سلاح المدرعات وأبلى بلاء حسنا. لكن وبحكم عقله الاستراتيجي احتاجته القيادة العامة ليكون في بورتسودان، بالقرب من قيادات الدولة، ليدير الأمور الاستراتيجية الكبيرة .
كان يُلقب في المؤسسة بـ “رجل الظل النظيف”، الذي لا يتحدث كثيراً، لكن فعله يسبق صوته، وتحليله يسبق كل حدث، لا يفشي سراً. صوفيّ النفس، كثير العبادة، دائم الذكر، نقيّ السريرة، يجمع بين أناقة الروح والمظهر، وقوة الحجة، ووقار الوقفة، واسع الأفق، يفيض حكمة دون استعلاء، ويبسط الهيبة دون غطرسة، شخصيته مزيج من هيبة المعتصم، وفكر المأمون، ودهاء الأفشين، وشجاعة أبي سعيد الثغري.
خرقٌ إذا استطعمته الحرب أطعمه
ضرباً يفرق بين الروح والبدن
كُلّف بإدارة ملفات شديدة الحساسية في الدولة، ومواقع ومناصب لا تمنح إلا لمن بلغ أقصى درجات الثقة والخبرة في فهم طبيعة التهديدات المحيطة بالأمن القومي السوداني. وبرز على المستوى الدولي كعضو فاعل في وفود هيئة الاستخبارات في مؤتمرات إقليمية وعالمية، وكان دائماً صوت الاستخبارات القوي والواثق، يتحدث بعدة لغات: العربية، الإنجليزية، والأمهرية الإثيوبية بطلاقة. وقد عُيّن ملحقاً عسكرياً في إثيوبيا، في وقت كانت العلاقات تمر بفترات توتر، فنجح بامتياز في إدارة الملف،
رغم مناصبه، كان متواضعاً، بسيطاً في التعامل، لا يغتر ولا يزهو. يحترم الكبير ويحتضن الصغير، يشارك في مناسبات الناس، ويظل حاضراً بقلبه وعقله.
رحيله لم يكن خسارة للمؤسسة العسكرية فقط، بل فقدان لوطن كامل كان يرى فيه مشروع قائد للغد. امتلك كل مقومات القيادة: فكر استراتيجي، خبرة استخباراتية، قدرة على التحليل، إخلاص لا يُشترى، وولاء لا يتزحزح.
اختاره الله شهيداً في درب العزة والوفاء. في صباح يوم الثلاثاء 9/9/2025 ولسان حاله يقول
في غد يعرف عنا القادمون
أي حب قد حملناه لهم
في غد يحسب فيهم حاسبون
كم أياد أسلفت منا لهم
في غد يحكون عن اناتنا
وعن الآلام في ابياتنا
وعن الجرح الذي غنى لهم
كل جرح في حنايانا يهون حين يغدو ملهما يوحي لهم
جرحنا دام ونحن الصامتون حزننا جم ونحن الصابرون
فابطشي ما شئت فينا يا منون

ستبقى سيرته منارة للأجيال، وتبقى ذكراه شرفاً لكل من عرفه. ولسان الحال يقول
واسألوه عزمنا الجبار إذا سلت مواضينا
نبادر ونندفع للموت ندافع عن أراضينا
اللهمّ إنّ الشهيد أبو عبيده قد مضى إلى حاله وسبقنا بأعماله، فاجعله في أعلى عليين مع النبيين والصديقين وحسن أولئك رفيقاً”. اللهم ألهم أسرته وأهله ومحبيه الصبر والسلوان، وأربط على قلوبهم، وأجعل لهم من ذريته خيراً، وخلفاً صالحاً اللهم اجعل صبرهم زيادة في إيمانهم، ولا تفتنهم بعده.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.