عثمان جلال يكتب
*بين صفين ومعركة الكرامة حذاري من مكر التاريخ*
(١)
يقول الفيلسوف هيغل
(إن الشعب لا يمكن أن يموت ميتة عنيفة إلا عندما يموت في ذاته ميتة طبيعية).
إن معركة صفين تمثل محطة الانكسار في منحنى الصعود الصاعق للتاريخ السياسي الاسلامي لأنها شكلت نقطة التحول في تاريخ الحضارة الإسلامية وهي المعركة التي نتج عنها وأد النموذج الديمقراطي في الدولة الإسلامية الأولى. ذلك النموذج الذي بدأ في التخلق الدستوري عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يحدد خليفة المسلمين من بعده ، ولم يحدد أجل ولاية الخليفة ، ولا آلية اختياره ، أو يحدد المسمى الوظيفي ذاته. وهذا ينم عن مرونة فقه الممارسة السياسية في الاسلام. فالسياسة في الفكر الاسلامي من العاديات والأصل فيها الإباحة.
(2)
إن كان ذلك كذلك فقد شكل مؤتمر سقيفة بني ساعدة بدايات التجديد في الممارسة السياسية في الاسلام وأثمرت الشورى صعود أبوبكر الصديق في منصب الرجل الاول في الدولة ، وأبوبكر يتحدر من بني تيم بن مرة وهم أقلية غير متنفذة في السيادة المكية وانتخابه شكل مفارقة للأعراف السياسية المتوارثة في مكة منذ وفاة الأب المؤسس قصي بن كلاب حيث تقاسم أبنائه السيادة في مكة فآلت السلطة الروحية والسياسية والاقتصادية في بني عبد مناف ، وآلت القيادة العسكرية لبني عبد الدار .
هذه الجدة في الاختيار أدهشت أبي قحافة والد أبوبكر وقال: وهل رضي بنو عبد مناف وبنو عبد الدار وبنو مخزوم؟
ما رفع من وضعوه وما وضع من رفعوه.
(3)
استمرت الممارسة السياسية التجديدية أيضا في اختيار الخليفة عمر بن الخطاب والذي يتحدر من بني عدي وهم كذلك أقلية هامشية في المجتمع المكي.ثم توسعت الممارسة الشورية عند اختيار عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب واللذان يتحدران من أرومة بني عبد مناف لتشمل مجتمع المدينة ومكة وقادة الأجناد والحجيج.
حتى وقعت معركة صفين والتي شكلت أول انحراف إستراتيجي في دولة الخلافة الراشدة المؤسسة على هوادي الشورى ، وجاءت بأول ملك في الإسلام هو معاوية بن ابي سفيان. فأسست بدايات الردة الفكرية والسياسية في الحضارة الاسلامية .
إن معركة صفين تمثل حالة التذبذب في الاختيار بين علي ومعاوية ، وبين الحكم الشوري والحكم الاستبدادي الملكي الأسري. وقد اختار المجتمع الإسلامي في هذه اللحظة الحرجة من تاريخه الطريق الذي قاده الى حالة القابلية للاستعمار بتعبير مالك بن نبي
(4)
لقد كانت معركة صفين صفرية بالنسبة لمعاوية وقد ظف فيها شعار الغاية تبرر الوسيلة ونزع إلى شراء الذمم حيث اقتطع إلى عمرو بن العاص كل مصر وحاول شراء ذمم كبار الصحابة أمثال أبوموسى الاشعري، وعبد الله بن عمر ولكنهما انحازا للقيم والمباديء .
وهل كان في تهامة ملكا ؟
هذا السؤال التهكمي أثاره زعماء قريش في الجاهلية عندما تم طرح فكرة تنصيب عثمان بن الحويرث ملكا على مكة. والإجابة كما تعلمون لا وهذه الطلاقة والحرية هي سر اختيار الجزيرة العربية موئلا للنبوءة الخاتمة لانعتاقها من ميراث العبودية وشيوع قيم الحرية والعزة والكرامة في حواضرها وبواديها.
لقد كان العرب في الجاهلية يفتخرون بأنهم لقاح لا يدينون للملوك والسلاطين والامراء ولذلك سمي البيت الحرام بالبيت العتيق لأنه لم يزل حرا لم يملكه أحد بتعبير الجاحظ.
(5)
لقد حدثت الانتكاسة الفكرية في صفين عندما تداعى بعض الصحابة مع معاوية وحولوا دولة الخلافة الموسومة بالرشد بسبب الممارسة الشورية والديمقراطية الى دولة هرقلية وكسروية . والملك يورث في المجتمعات ثقافة الاستعباد والخنوع ، وهكذا كان حال بني إسرائيل لم يستجيبوا للنداء الرباني وتحريض سيدنا موسى لهم باقتحام الأرض المقدسة ومنازلة الجبابرة العماليق بالسنان وتأسيس دولة الحرية والسيادة والعزة والكرامة بعد أن كانوا عبيدا في مصر الفرعونية ، ولكن طبع الهوان والانكسار يأبى على الناقل
لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . وضربت عليهم الذلة والمسكنة والتيه في الأرض حتى برز جيل العزة والكرامة واقتحم الأرض المقدسة وشيد الدولة الأولى لبني إسرائيل
(6)
إن معركة الكرامة التي يقودها الجيش والشعب السوداني أشبه بالسياق التاريخي والنتائج التي ترتبت عليها معركة صفين والتاريخ ماكر ويضمر الشر لمن لا يتعظ منه فانتصار الجيش والشعب في هذه المعركة الوجودية الصفرية يعني استمرار حالة التخلق الدستوري لقضايا البناء الوطني والتحول الديمقراطي المستدام ، وتعني سيادة ثقافة المجتمع القائد في الدفاع عن القيم الوطنية العليا ، وثقافة المجتمع القائد في السياسة والحكم والتنمية والثقافة والنهضة الحضارية الشاملة.
أما البديل في حالة تراخي وتقاعس المجتمع السوداني عن القتال كتفا بكتف مع الجيش حتى القضاء الناجز على المليشيا الارهابية او استسلامها ، فهي تأسيس مملكة آل دقلو وملكها المرتزق على الشيوع حميدتي وتحت الوصاية والتبعية المباشرة للمجرم محمد بن زايد وبثمارها تعرفون مآلات حكم مملكة آل دقلو للسودان وحذاري من مكر التاريخ.
الجمعة: 2025/10/17
