*خطط وسياسات محافظ بنك السودان* *(قراءة اقتصادية تحليلية)* بقلم د. أحمد حسن الفادني
*خطط وسياسات محافظ بنك السودان*
*(قراءة اقتصادية تحليلية)*
بقلم د. أحمد حسن الفادني
يعاني السودان من أزمات اقتصادية متعاقبة و متراكمة وآخرها حرب ابريل 2023 التي كانت الوائدة بالرغم من جهود المجلس السيادي في كبح جماح الأزمة و التخفيف من وطأتها عبر القرارات التنفيذية التي كان لها الأثر البسيط و لا يعدو ايام.
و اليوم أعلنت محافظ بنك السودان المركزي الأستاذة آمنة ميرغني حسن التوم عن حزمة من الترتيبات والإصلاحات التي تهدف لتحديث البنية النقدية والمالية حيث شملت استكمال عملية استبدال فئات العملة الوطنية وطرح فئات جديدة إلى جانب تبني التحول الرقمي عبر المنصة الموحدة للتحويل اللحظي للأموال ، وفي اعتقادنا هذه الخطوات في ظاهرها تعكس إرادة مؤسسية جادة لاستعادة الثقة في الجهاز المصرفي وإعادة الانضباط للسياسات النقدية إلا أن تقييمها الحقيقي لا يمكن أن يتم بمعزل عن الظروف الاقتصادية القاسية والمعقدة التي يعيشها المواطن السوداني اليوم ومن خلال ذلك نتناول في هذا المقال تحليل و قراءة اقتصادية للسياسات التي تتبناها محافظ بنك السودان المركزي:
أولا: خلفية الواقع النقدي والاقتصادي الراهن:
تعد الأزمة النقدية في السودان من أكثر الأزمات تعقيدا في المنطقة العربية و الافريقية إذ يواجه الاقتصاد مشكلات تتمثل في تراجع الإنتاج و ضعف الصادرات و تضخم مفرط وانكماش في القوة الشرائية إلى جانب غياب الثقة في النظام المصرفي نتيجة لفترات الحرب وعدم الاستقرار السياسي ، هذا الواقع أنتج بيئة يصعب فيها على المواطن والمصرف سواء ممارسة وظائفهما بصورة طبيعية نجد أن السيولة شحيحة والخدمات المصرفية متقطعة والعملة المحلية تتأكل قيمتها يوما بعد يوم.
ثانيا: أهداف البنك المركزي من الإصلاح النقدي:
تأتي سياسات المحافظ آمنة ميرغني في إطار خطة لتطوير النظام المصرفي وتعزيز الرقابة المالية عبر:
1. إدارة الفئات النقدية واستبدالها لضمان جودة التداول وتسهيل المعاملات.
2. توسيع نطاق الشمول المالي من خلال إدخال فئات جديدة تسهل التعاملات في حركة الأسواق.
3. إطلاق المنصة الرقمية الموحدة لتسريع التحول نحو اقتصاد رقمي يقلل الاعتماد على النقد الورقي.
4. الحد من التضخم وضبط السيولة وسعر الصرف عبر سياسات نقدية أكثر انضباطا.
5. توجيه التمويل المصرفي نحو القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة والصادرات.
هذه الخطوات في مضمونها تضع البنك المركزي في قلب معركة إعادة بناء الاقتصاد السوداني من الداخل هل هناك من احترازات و خطط بديلة؟
ثالثا: القراءة الاقتصادية العلمية للقرارات:
من الناحية الاقتصادية البحتة بناء على تحليل و اراء خبراء الاقتصاد السودانين فإن استبدال العملة أو إدخال فئات جديدة ليس هدفا في حد ذاته بل هو أداة تنظيمية يجب أن تخدم أهدافا أكبر مثل استقرار الأسعار و تقليل المعروض النقدي خارج الجهاز المصرفي ومحاربة السوق الموازي ، ولكن هذا الإجراء إذا تم دون وفرة حقيقية في السيولة ودون بدائل رقمية فعالة وميسرة فقد يؤدي إلى نتائج عكسية مثل تعميق أزمة النقد وزيادة معاناة المواطنين محدودي الدخل خصوصا .
أما التحول الرقمي فهو خطوة مستقبلية واعدة إلا أنه يتطلب بنية تحتية قوية وشبكات اتصال مستقرة وثقافة مالية رقمية وهي عوامل ما تزال محدودة في أجزاء واسعة من السودان خاصة في المناطق الريفية والمناطق التي تأثرت بالحرب.
رابعا: التحدي بين السياسة النقدية والواقع الاجتماعي:
المشكلة الجوهرية أن أي إصلاح نقدي لا يمكن أن ينجح في بيئة اقتصادية مأزومة دون إصلاح مالي موازي يعالج جذور الاختلالات، فلا يمكن ضبط سعر الصرف دون احتياطات أو موارد نقد أجنبي مستدامة من الصادرات ولا يمكن خفض التضخم دون انضباط مالي وضريبي وشفافية في الإنفاق العام، كما أن التحكم المفرط في السوق دون تحفيز الإنتاج المحلي يؤدي إلى شح السلع وارتفاع الأسعار وهو ما يشعر به المواطن مباشرة في حياته اليومية.
خامسا: هل هي خطوة اقتصادية أم سياسية؟
يبدو أن قرارات المحافظ آمنة ميرغني تحمل بعدين متوازيين:
1. من الناحية الفنية: هي محاولة لاستعادة الثقة في الجهاز المصرفي وتنشيط الدورة النقدية بعد انهيارها خلال الحرب.
2. من الناحية السياسية: فهي رسالة لإثبات قدرة الدولة على إدارة اقتصادها ومؤسساتها رغم الظروف الصعبة.
لكن ما سيحكم نجاح التجربة هو التنفيذ الواقعي ومدى مراعاة البعد الاجتماعي والإنساني في تطبيقها لا مجرد الإعلان عنها في المؤتمرات.
سادسا: الطريق نحو معالجة الأزمة المتراكمة (من وجهة نظر الخبراء):
لتتحول هذه السياسات من قرارات إدارية إلى إصلاح حقيقي وفاعل لا بد من حزمة متكاملة من الإجراءات المصاحبة أبرزها:
1. إعادة الثقة بين المواطن والجهاز المصرفي عبر الشفافية في إدارة النقد والإفصاح عن الخطط الزمنية للاستبدال.
2. توسيع برامج التمويل الأصغر والمشروعات الصغيرة لتمكين الأسر المنتجة من دخول الدورة الاقتصادية.
3. توحيد سعر الصرف تدريجيا وفق آلية شفافة للعرض والطلب.
4. إصلاح إدارة صادرات الذهب وضمان دخول عائداته عبر القنوات الرسمية.
5. تحفيز التحول الرقمي المتدرج مع برامج تدريبية للفئات الأقل معرفة بالتقنية.
6. تشجيع الإنتاج المحلي وتوسيع القاعدة الضريبية بعدالة لتقليل العجز المالي.
سابعا: الملخص والرؤية المستقبلية
إن ما تقوم به الأستاذة آمنة ميرغني يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح من حيث الرؤية الفنية والإدارية، لكنه غير كافي بمفرده لمعالجة الأزمة الاقتصادية الراهنة ما لم يدمج في رؤية اقتصادية قومية شاملة تقوم على الإنتاج الحقيقي والسياسات المالية المنضبطة والإصلاح المؤسسي العميق، فالإصلاح النقدي وحده لا يصنع استقرارا ما لم يكن هناك إنتاج وفير وثقة مجتمعية وعدالة اقتصادية، وفي بلد كالسودان ما زال الاقتصاد يعيش على هامش إمكاناته الحقيقية فإن التحدي الأكبر ليس في طرح فئة نقدية جديدة انما في طرح رؤية جديدة للاقتصاد السوداني ذاته.
وفي ختام القول نقول أن سياسات البنك المركزي الحالية تحمل نوايا إصلاحية صادقة لكنها بحاجة إلى حاضنة اقتصادية واجتماعية قوية وإلى توافق مؤسسي بين السياسة المالية والنقدية، وبينما تسعى الدولة إلى ضبط السوق فإن عين المواطن تتطلع إلى استقرار الأسعار والمعيشة قبل أي شيء، فإن نجاح هذه المرحلة يتوقف على مدى تحويل الإصلاحات من قرارات على الورق إلى أثر ملموس في حياة الناس، فقد ضاقت بهم الارض.