وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي *صحافة الصدقات وفتات موائد اللائم*
وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
*صحافة الصدقات وفتات موائد اللائم*

في زمن الحرب تتكشف معادن الرجال، وتتضح حقيقة الأدوار. وحين يجد القلم نفسه مضطرًا لتناول أداء حكومة متداعية، ومكتب إعلامي يخلط بين إدارة النقد وإدارة الخلاف، ومستشار سياسي يقتات على التجريح أكثر من بناء خطاب الدولة، فثمة خلل لا يمكن تجاوزه ، ولا بد من الكتابة.
لا يمكن لرئيس وزراء، أن يغادر البلاد في جولات خارجية تمتد لأكثر من أسبوعين، بينما تعيش الساحة السياسية احتياجًا ماسة لطمأنته وإجاباته. فالمهام التي تُسند عادة إلى الأجهزة الدبلوماسية أو المؤسسات الأمنية، لا تليق بمن يقود السلطة التنفيذية، أن يتولاها بنفسه ان كان في مهمة رسمية، ما يجعل التساؤلات مشروعة: هل نحن أمام حكومة تدير الملفات أم تُدار بها؟ وهل الخشية من مخاطبة الداخل أقوى من إغراء السفر للخارج؟
وإذا كان هذا الغياب كارثيًا، فإن الكارثة الأكبر تكمن في بيئة القرار التي تحيط به: فالمكتب الإعلامي الذي يفترض به أن يزين أداء الحكومة بالحجة والمنطق، ويمد الجسور مع الصحافة بات يفضّل الردود الانفعالية التي تستسهل استهداف الصحفيين ، بدل مواجهة الأسئلة الواجبة.
ومستشار سياسي يظن أن تخوين الصحفيين يعفي الحكومة من فشلها، فيمارس دور “الجلّاد اللفظي” يلوّح بمعاقبة الصحفيين و تصنيفهم بين مداح ومنتفعين ويتوعد بملاحقتهم.
وما يزيد الأمر سوءًا هو تلك التصريحات الرسمية التي لا تشبه الدولة، بل تشبه منابر الفوضى، وتكشف عن عقلية تحاول الهروب من المساءلة عبر خلق خصومات جانبية، بدل مواجهة الأسئلة الكبرى: من يحدد مسار البلاد؟ من يتحدث باسم الشعب؟ ومن يفاوض على مستقبل السودان؟
وإذا كان البعض يظن أن النقد محاولة “لهدم الحكومة”، فإن الحقيقة أبسط: الحكومة تهدم نفسها بنفسها، حين تهرب من واجباتها، وتحتمي وراء جدار من الكلمات المخزية، وتترك الشعب بلا إجابة، والوطن بلا رؤية. فالحكومة التي ترتعد من نقد صحفي، وتستنفر مستشارها ضد مقالات الرأي، هي حكومة فقدت ثقتها بنفسها قبل أن تفقد ثقة الناس.
بالمقابل ، يبرز سؤال آخر: كيف يمكن للصحافة، في لحظة مفصلية تندرج تحت عبء الواجب والتاريخ، أنْ تستقيم على خط النقد المسؤول، دون أن تتحول إلى منبر للتجريح أو تصفية الحسابات؟ إذ لا بد أن يعي الصحفي، وهو يمارس أدواره، أن الكلمة أمانة، وأن نقد الأداء الحكومي لا يستقيم بالإسفاف أو الاستفزاز، بل بالتحليل العميق والالتزام بقيم مهنته.
غير أنّ خطيئة الحكومة أعظم: أنها تتعامل مع النقد وكأنه خيانة، ومع الصحافة وكأنها خصم سياسي، ومع الرأي العام وكأنه عدو يجب إسكاته. وهذا وحده كفيل بتقويض أي شرعية سياسية، مهما علا صوت الخطابات.
إذا كان رئيس الوزراء يظن أنّ الوقت يعمل لصالحه، فذلك وهم ، وإن كان من حوله يعتقدون أن الرد على الانتقاد يكون بالشتيمة، فذلك جهل بطبيعة الحكم. فالصحافة لا تنتصر على السلطة، ولا تسقطها، لكنها تفضح الغياب حين يصمت الجميع، وتؤرخ للمواقف حين تُغلق أبواب القاعات.
وليس أدلّ على هذا الارتباك من عجز الحكومة عن قراءة التحولات الكبرى في طبيعة الحرب، فبعد تصريحات فولكر تورك المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الذي قال:” أنّ السودان يتعرض لحرب تُخاض بالوكالة طمعا في موارده” ، كان من واجب الحكومة أن تُعيد صياغة خطابها، وأن تتحرك بخطة واضحة. لكن بدلاً من ذلك، ظلّت تمارس “إدارة بالغياب”، دوان أن تستثمر هذا التصريح المهم، في تغير المعادلة .
تكشف تجارب الحروب أن غياب القيادة التنفيذية في اللحظات المصيرية يترك الدولة مكشوفة لانقساماتها، خاصة حين يغيب مشروعٌ وطني يوحّد الرؤية. وفي السودان يتضاعف الخلل ببياناتٍ تتعالى على الصحافة، فتقحم النقد في خانة العداء بدل أن تعترف به ركيزةً من ركائز الشراكة الوطنية.
هنا يصبح السؤال الجوهري: هل السلطة التنفيذية قادرة على ممارسة وظيفة الدولة في توازنها الإقليمي والدولي؟ أم أنها تستهلك في معارك جانبية تُثير الشبهات حول غاياتها؟ إن الطابع المناكف لبعض التصريحات يوحي بمسعى لصرف الأنظار عن واقع سياسي يُعاد هندسته في الغرف المغلقة، بينما تُختزل الحرب في “معارك كلامية”، وتتسرب مؤشرات خطيرة عن اتفاقات غير معلنة تمس مستقبل موارد البلاد ووجهتها.
في تحليل المشهد، تبدو الحكومة التي تواجه أزمتها بخطاب دفاعي عاجزة عن بلورة رواية وطنية توحد الناس، بما يكشف خللًا بنيويًا في تصورها لوظيفتها السياسية. ويزداد هذا الخلل خطورة حين تُدار صراعات دولية على ثروات البلاد في غيابها السياسي، بينما يتحول الفاعل المحلي إلى مجرد غطاء، تتآكل بموجبه الثقة وتتسع المسافة فيه بين الدولة ومجتمعها.
ختامًا، ووفقًا لـ #وجه_الحقيقة، لا أحد بمنأى عن النقد ولا مهنة فوق المساءلة. وتبقى الحكومات تُقاس بأفعالها لا بشعاراتها، وتظل الصحافة جديرة بالاحترام بقدر ما تحفظ استقلالها ورصانتها وبعدها عن الصدقات وموائد اللائم.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 19 نوفمبر 2025م Shglawi55@gmail.com
