*السودان في المنطقة الرمادية … هل إلى خروجٍ من سبيل؟* بقلم / السفير رشاد فراج الطيب
*السودان في المنطقة الرمادية … هل إلى خروجٍ من سبيل؟*
بقلم / السفير رشاد فراج الطيب

من المؤسف أن تري السودان يقلب وجهه في السماء يبحث عن قبلة يرضاها ويلتمس فيها النصر والعون علي ما أصابه من المصيبة والبلاء العظيم .
يقف السودان اليوم في منطقة رمادية خطرة ، لا هو قادر على الانخراط الكامل في معسكر ، ولا هو قادر على الانفلات من ضغوط التحالفات الدولية المتشابكة .
ومن المؤسف أن يواصل السودان السودانية انتظار “لحظة الرضا الأمريكي” التي طال أمدها ، وكأن قرار الخرطوم مرهون بإشارة تأتي من واشنطن أو برسالة تطمينية من تل أبيب .
لكن الحقيقة التي لا بد من قولها بوضوح هي أن هذا الانتظار سيطول ، وربما لن يأتي أصلاً .
فالمصالح الأمريكية لا تُبنى على أخلاق أو مبادئ ، بل على حسابات النفوذ وحماية الحلفاء الأقربين أولاً ، وأولهم إسرائيل .
لقد دفع السودان ثمناً باهظاً في حربه الراهنة ، وقد دُمرت مدنه وشُرد شعبه وهُددت وحدته الوطنية ، بينما اكتفت الولايات المتحدة بالصمت ، بل واستمرت في توفير الغطاء السياسي لحلفائها الذين دعموا العدوان على السودان وسلحوا المليشيا بالمرتزقة والسلاح الامريكي الصنع ، وسكتت عن جرائم ارتُكبت على مرأى العالم وكأنها ترجو وتتوقع انكسار السودان وجيشه الباسل !
فكيف يُعقل بعد كل هذا أن يطلب السودان الحلول من ذات الأطراف التي ساهمت في تأجيج الحرب أو وقفت متفرجة على مآسيه ؟
وكيف تُقدَّم دماء السودانيين وتضحياتهم الهائلة هدية سخية تُهدى لواشنطن أو تُستثمر في حسابات تل أبيب لتحقيق مزيد من السيطرة والنفوذ وتحقيق أحلامها التوسعية التوراتية ؟
إن أي حل أمريكي لن يكون من أجل السودان ، بل من أجل إرضاء الحلفاء الإقليميين الأقرب وضمان المصالح الأمريكية أولاً .
ومن يتوهم أن واشنطن ستتبنى حلاً وطنياً خالصاً إنما يقرأ الواقع بالمقلوب .
والدليل الأوضح على ذلك ما جرى في غزة .
فالخطة الأمريكية للسلام لم تكن سوى بيع للوهم ومحاولة لتصفية القضية الفلسطينية ، ومصادرة حق الشعب في مقاومة الاحتلال ، وفرض شكل من الانتداب الدولي ، ودفن فكرة إقامة الدولة .
لقد انتصرت أمريكا لإسرائيل وأعطتها ما لم تتمكن من انتزاعه بالقوة العسكرية ، وأعادت صياغة المنطقة وفق رؤية إسرائيلية خالصة يرضاها اليمين المتطرف المسيحي واليهودي .
من هنا ، يصبح التحذير واجباً من الانجرار وراء أوهام “الاتفاق الإبراهيمي” والذي يقوم اصلا علي منطق الاستتباع للهيمنة وليس العدل والانصاف والذي صمم أصلا للاستفراد بالدول من حول القضية الفلسطينية ، والقضاء علي اي أمل او فرصة لقيام دولة فلسطينية مستقلة علي أساس حل الدولتين .
إن الاعتقاد بأن التحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل يمكن أن يوفر للسودان استقراراً أو دعماً حقيقياً هو مجرد سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء .
فهذه أوهام جُربت من قبل من تبعوا هذه الطريق ، ولم تثمر إلا ضعفاً وارتهاناً .
إن السبيل للخروج من المنطقة الرمادية تبدأ من الداخل ، لا من واشنطن .
وتبدأ بالاعتماد على قوة الشعب والتفافه حول جيشه الوطني ، وبناء مشروع سياسي يستند إلى الإرادة السودانية أولاً مع التوكل الله أولا وأخيرا .
كما تبدأ بإعادة تعريف المصالح الاستراتيجية للسودان وفق واقعه وهويته وعمقه ووزنه الإقليمي ، لا وفق ما يريده حلفاء واشنطن .
وفي عالم تتغير فيه موازين القوى ، يصبح من الضروري أن يمد السودان جسور التعاون مع شركاء أكثر صدقاً وموثوقية ، مثل الصين وروسيا وتركيا وإيران وباكستان وماليزيا ، وهي دول أثبتت في محطات كثيرة أنها أكثر احتراماً لخيارات الدول واستقلال قرارها ، وأكثر قرباً من تطلعات الشعوب في مقاومة الهيمنة ورفض الإملاء السياسي واشتراط التبعية الكاملة .
إن السودان لا يمكنه أن يبقى عالقاً في المنطقة الرمادية ، ولا يمكنه أن يواصل دفع ثمن حرب مفروضة قدم فيها شعبه دما غاليا دون أن يجني ثمرة جهاده حرية واستقلالا وسيادة.
والخروج من هذا المأزق يتطلب شجاعة سياسية ، ورؤية وطنية خالصة ، وإيماناً بأن استقلال القرار أثمن من أي وعود أمريكية أو إغراءات إسرائيلية .
فمن يريد أن يُبقي السودان واقفاً وعزيزا ، لا بد أن يبدأ من الإيمان بعظمته وحقه في الانتصار ، ومن إرادته ، ومن عزيمة شعبه … لا من لوبيات واشنطن ولا من بوابات تل أبيب .
