وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي *كيف سلّمت الأحزاب السودان.. ؟!*
وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
*كيف سلّمت الأحزاب السودان.. ؟!*

بدأ تسليم السودان بالتقسيط، خطوةً بعد أخرى، حين عجزت الأحزاب السياسية عن الارتقاء من منطق الخصومة إلى منطق الدولة. فمنذ سقوط نظام عمر البشير في عام 2019، لم تتعامل القوى السياسية مع التحول بوصفه فرصة تاريخية لإعادة تأسيس العقد الاجتماعي، بل نظرت إليه كغنيمة سلطة، تُدار بعقلية المنتصر الطامع، لا بعقلية الشريك المسؤول.
أولى حلقات هذا التسليم تمثلت في استبدال السياسة بالإقصاء. فقد رُفعت شعارات الثورة والعدالة، لكن الممارسة العملية انزلقت سريعًا نحو إقصاء الخصوم والتشهير بهم بدل محاسبتهم عبر القانون. وتحولت لجنة إزالة التمكين من أداة للعدالة إلى وسيلة للتصفية السياسية، فانهار مبدأ سيادة القانون، وبدأت الدولة تُدار بالأشخاص لا بالمؤسسات. عند هذه النقطة، سقط العقد الاجتماعي: المساواة أمام القانون، وفقدت السلطة جزءًا من شرعيتها الأخلاقية والسياسية، وسندًا مهمًا من ثقة الشباب الطامح للتغيير.
الحلقة الثانية تمثلت في تفريغ الشرعية من مضمونها . فبدل الاحتكام إلى الشعب عبر انتخابات مبكرة أو مسارات انتقال واضحة، جرى التعويل على شرعية ثورية مفتوحة بلا سقف زمني، تُدار بتحالفات مصنوعة واتفاقات فوقية. مع مرور الوقت، تحولت الدولة إلى فراغ ، بينما تمددت قوى الأمر الواقع، المسلحة وغير المسلحة، داخل جسدها.
ثم تكرّس هذا المسار بمحاولات إجازة ما يعرف ب “دستور المحامين” ، صُمّم عمليًا لاستبعاد أحزاب سياسية بعينها بحجة عدم إغراق العملية السياسية، علما بأنه فشل في نيل الحد الأدنى من الإجماع الوطني لإجازته.
لاحقًا ومع تعثر الانتقال، اتجهت ذات القوى إلى الاتفاق الإطاري، مصحوبة بخطاب سياسي انطوى على تهديدات مبطّنة، توحي بامتلاك “خيارات بديلة” في حال عرقلة المسار، كما صرحت بذلك قيادات بارزة، من بينها الدكتورة مريم الصادق المهدي. في تلك اللحظة، بدأ يتسرب إلى المراقبين والرأي العام حديث عن احتمالات انقلاب يستند علي مليشيا الدعم السريع التي تفوق وجود الجيش في العاصمة الخرطوم.
وعزّز هذه السردية ما أشار إليه صحفيون وسياسيون فاعلون من أن ما جرى في 15 أبريل 2023 كان، في بداياته، محاولة انقلابية لإزاحة رأس الدولة، قبل أن يتحول إلى حرب شاملة بفعل مقاومة المؤسسة العسكرية.
أما الحلقة الأخطر، فتمثلت في الاستقواء بالخارج لإدارة الداخل. إذ عجزت الأحزاب عن تسوية خلافاتها، فسلّمت مفاتيح البلاد للوساطات الإقليمية والدولية. ومع كل جولة تفاوض خارج الحدود، كان القرار الوطني يفقد جزءًا من استقلاله، حتى تحوّل السودان، كما وصفه مفوض حقوق الإنسان بالأمم المتحدة فولكر تورك، إلى “ساحة حرب تُخاض بالوكالة طمعًا في الموارد” . هنا أصبح الخارج، طامعا، ولم تعد التسويات عادلة، بل مفصّلة وفق موازين إقليمية ودولية تبحث عن مصالحها.
في هذا السياق المخزي، وقعت الخطيئة الكبرى: التطبيع السياسي مع السلاح خارج الدولة. فبدل التمسك الصارم بمبدأ احتكار الدولة للقوة، صمتت قوى سياسية أو برّرت، أو راهنت على مليشيا الدعم السريع بوصفها أداة ضغط أو شريكًا محتملًا في التوازنات الجديدة. ومع صمود المؤسسة العسكرية، أصبح الانفجار مسألة وقت، فاندلعت الحرب، المستمرة حتى اللحظة، كنتيجة منطقية لمسار سياسي فاسد.
اليوم، تكتمل صورة التسليم عبر دعوات إقصائية جديدة، على رأسها المطالبة بتصنيف الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني منظمات إرهابية. هذه الدعوات ارتدت لبوس سياسي عاجز، تعكس ذهنية سياسية لا تميز بين العدالة والانتقام، وبين المساءلة والإلغاء وبين الوطن ورجاء الأجنبي. وهي تتجاهل حقيقة أن السودان يخوض حربًا وجودية، وأن تفكيك الجبهة الداخلية في هذا التوقيت يخدم خصوم الدولة أكثر مما يخدم البلاد.
كما تتجاهل هذه الدعوات حقيقة اجتماعية وسياسية أساسية، مفادها أن هذه التيارات، مهما اختلفنا معها، تشكّل جزءًا من النسيج الوطني، ولها حضور فعلي في المجتمع والميدان، بوصفها تمثل شريحة من الشعب.
في المقابل، يرد التيار الإسلامي باتهامات مضادة، واصفًا الأحزاب المرتبطة بقيادة الدكتور عبد الله حمدوك، مثل “صمود” و”تأسيس” ، بأنها واجهة سياسية لمليشيا الدعم السريع، ومتهمًا إياها بالصمت أو التواطؤ تجاه الانتهاكات الواسعة والموثقة بحق المدنيين، التي أدانتها منظمات حقوقية دولية بوضوح. وهكذا ينحدر المشهد إلى معادلة قاتلة: إقصاء مقابل تخوين، بينما تضيع دماء المدنيين بين خطابين متصارعين.
ويذهب هذا الخطاب أبعد من ذلك، حين يربط هذه المواقف بمسار سياسي متكامل، يسعى إلى إعادة هندسة السلطة في السودان عبر إضعاف المؤسسة العسكرية ، وفرض تسوية مختلة الميزان يكون الدعم السريع أحد أعمدتها، مع إقصاء قوى اجتماعية وسياسية بعينها من المشهد العام.
بهذا المعنى، تصبح المعركة ، صراعًا حول طبيعة الدولة نفسها: هل هي دولة وطنية تحتكر السلاح وتخضع للشرعية، أم كيان هش تُدار توازناته عبر مليشيا مسلحة مدعومة خارجيًا وواجهة مدنية توفر لها الغطاء السياسي؟ ومن هنا، يكتسب اتهام “العمالة” بعدًا مركزيًا في هذا الخطاب.
غير أن خطورة هذا المشهد لا تكمن في الاتهامات المتبادلة بحد ذاتها، بل فيما تكشفه من انهيار كامل لمنطق التعاقد الاجتماعي. فبدل إدارة الخلافات عبر تحقيقات مستقلة، ومساءلة قانونية، ومواقف أخلاقية واضحة من الانتهاكات، ينزلق الخطاب السياسي إلى تخوين شامل، يوازي في حدّته خطاب الإقصاء المقابل. وهكذا تتحول الساحة السياسية إلى ساحة اتهامات متبادلة، تتراجع فيها قيم الوطنية، ويُستنزف ما تبقى من فكرة الدولة.
إن فلسفة العقد الاجتماعي، كما صاغها روسو ومن جاء بعده من فلاسفة السياسة، تقوم على مبدأ اساسي :لا شرعية بلا رضا، ولا دولة بلا حد أدنى من التوافق بين مكوّناتها. فالدولة الحديثة لا تُبنى على منطق المنتصر والمهزوم، بل على إدماج الخصوم داخل إطار قانوني جامع، يحتكم في النهاية لإرادة الشعب عبر انتخابات حرة تأتي بمن ارتضاه وتواضع عليه.
في المقابل، أعادت الحرب رسم صورة بعض الفاعلين السياسيين، وعلى رأسهم التيار الإسلامي، الذي ظهر، في نظر قطاعات واسعة، منخرطًا في الدفاع عن الدولة، ومستندًا إلى خطاب يربط العودة إلى السلطة بالانتخابات والاحتكام للشعب. وهذا التحول بغض النظر عن تقييمه، يؤكد فشل المقاربة الإقصائية في إنهاء دوره، ويثبت أنها تدفعه إلى الصدارة.
لذلك المأزق السوداني أزمة ثقافة سياسية لم تستوعب بعد معنى الدولة ولا منطق العقد الاجتماعي، ثقافة ترى في الخارج سندًا، وفي الإقصاء حلًا، وفي المؤامرة بديلًا عن الفعل السياسي المنتج. ولن يكون الخروج من هذا النفق إلا بالانتقال من سياسة الخصومة الصفرية إلى سياسة التعاقد الوطني، حيث يُدار الخلاف داخل الوطن، ويكون الشعب هو الحكم .
الخلاصة القاسية، وفق # وجه_الحقيقة ، أن الأحزاب السودانية لم تُهزم في معركة سياسية، بل سلمت السودان تدريجيًا: تخلّت عن القانون لصالح الإقصاء، وعن السيادة لصالح الخارج، وعن الجيش لصالح المليشيا، وعن الأخلاق لصالح الحسابات الضيقة. ومن دون كسر حلقة الإقصاء والتخوين والاستقواء بالخارج، سيظل السودان يدور في فلك الصراع، بعيدًا عن دولة العقد الاجتماعي، وقريبًا من منطق الحرب المفتوحة.
دمتم بخير وعافية.
الخميس 18 ديسمبر 2025م Shglawi55@gmail.com
