منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

عماد البليك يسترجع حكايات “نوباتيا” بين السودان ومصر

0

في ظلال تاريخ قديم مفتوح على الرؤية والتأمل، وجغرافية زائلة وحاضرة في آنٍ واحد، يسترجع الروائي الزميل عماد البليك في روايته “الملائكة في فرص” (دار ويلوز هاوس، السودان)، المبنية بشغف بادٍ، وحنين غامض، تاريخ مملكة “نوباتيا” الزائلة. و”فرص”، وتكتب أيضاً “فرس”، هي عاصمة مملكة نوباتيا النوبية في شمال السودان وجنوب مصر، وقامت في منطقة ما بين الشلال الأول في أسوان، حتى آخر الشلال الثاني في منطقة “بطن الحجر”، وهي المملكة التي تُسمى أيضاً “المريس”، التي تنتمي إلى التاريخ المسيحي، وأسس فيها كثير من المعابد التي اكتشفت بين عامي 1960 و 1962. و”فرص” ليست أي مدينة، إنها أرض ربما حملت أعمدة هرقل، وسرها هذا يعرفه الخاصة، وغير متاح للجميع، بل يتم تناقله سراً من جيل إلى جيل عبر الكهنة والعلماء. وهذا ما يجعل المعرفة الإنسانية مربكة بالنسبة لأصحابها في هذا النص، حيث تتجلى في اتجاهات شتى، بين الجغرافيا والتاريخ والمخطوطات والكتب، والأهم التجربة الإنسانية الممتدة بين أكثر من جيل، تطوف من الشرق إلى الغرب، ترنو إلى الكشف عن حقيقة الحضور الروحي، وحقيقة الوجود الأرضي المرتبط بالنوبة، وقارة أتلانتس في وقت واحد. كل هذا يجتمع في شخصية عالم الآثار والرجل اللاهوتي جوفياني كارلوس
عتبات النص

اختار الكاتب دمج الكتابة بالفن التشكيلي، بداية من عتبة النص الأولى، أي العنوان، الذي استلهمه من لوحة “الملائكة في فرص”، التي تم العثور عليها في الكنيسة العتيقة في مدينة نوباتيا الغارقة في نهر النيل. ثم اختار لوحة الغلاف جدارية للقديسة آن، وتعود إلى زمن مملكة المقرة في شمال السودان، يُقدر أنها رُسمت ما بين القرنين السابع والثامن الميلادي، وقد تم اكتشافها عام 1962، في مدينة فرص أيضاً، على يد إحدى البعثات البولندية، وموجودة الآن في متحف مدينة وارسو في بولندا. ويجد القارئ أيضاً أيقونات عند بداية كل فصل، هي من الرسومات النوبية التي توضع عادة عند مداخل البيوت والجدران.

رواية البليك (دار ويولز هاوس)
يضع الكاتب خريطة توضح بلاد النوبة القديمة، وموقع مدينة فرص. وتبدأ أحداث الرواية مع فصل “الطوفان” عام 1962، وهي بداية موفقة لوضع القارئ مباشرة عند اللحظة المفصلية، التي تغير حياة أهل النوبة، وتبدل مصائرهم من حال إلى حال، من نعيم الاستقرار إلى رحلة الشتات في بلاد الله، ليكونوا مثل “اليهود أو الغجر أو أي طائفة تبحث عن وطن”. لنقرأ: ” كبار السن حسبوها قيامة سريعة سوف تقضي على كل شيء، سوف تهزم الحكومة الكافرة التي اتخذت القرار، لعنوا الحاكم العسكري في الخرطوم، وبعدها بعام في 21 أكتوبر (تشرين الاول) 1964، حصلت الثورة ضده في الخرطوم، وأزيح عن السلطة، ولا أحد ربط بين تهجير النوبيين، وانتزاع تاريخهم وهذه الثورة”.

حكاية أهل النوبة، إحدى حكايات الحياة في وجوهها المختلفة المؤلمة، والملتبسة والبهية، حكاية انتزاع الهوية، والهجران القسري، ثم السؤال عن الأنا ضمن علاقة الفرد بالزمان، ثم المكان، الذي يُصبح قسرياً في مثل هذه الحالات، إذ ليس من اختيار لرفض المكان الجديد أو قبوله، بعد التهجير.

ملائكة المخطوطة

تتكون الرواية من تسعة وعشرين فصلاً، يضع الكاتب ضمن إطار السرد، تحولات شكلانية في صيغة الكتابة، بالانتقال إلى الخط الأسود الثقيل عند تبديل صوت الروي، أو تضمين النص مقاطع حوارية من مجموعة قصصية سابقة للكاتب بعنوان “الهمبول”. ثم يتحول في سرده إلى البروفيسور جوفياني، الذي كان ضمن البعثة البولندية عام 1962، يعملون كفريق لإنقاذ الجغرافيا والتاريخ من الزوال، قبل أن يغمر السد الجديد الأرض، ويلغي المكان العتيق القائم منذ قرون. لكن البروفيسور اليوناني الغريب يبكي على الأرض النوبية، كأنه ابنها، حين يرى التاريخ يتهاوى، والبشر يُقتلعون من أرضهم، وذكرياتهم، بعدما اتفق البلدان الجاران على أن يُبنى السد، ويرحل الأهالي إلى مدينة جديدة بعيدة عن ديارهم التي عاشوا فيها. جوفياني أيضاً يحس أنه اقتلع من دياره، وأنه غدا وحيداً بلا وطن ولا ذاكرة، غريباً مثل سائر غرباء الأرض.

الروائي عماد البليك (صفحة الكاتب – فيسبوك)
اختار البليك بناء روايته الثرية والمتماسكة في سرد حيّ، ضمن فصول قصيرة، كل فصل يُفضي إلى الآخر. وبلغة سلسة، ينتقل في سرده برشاقة، من شخصية إلى أخرى، بين ماضي الشخصيات البعيد وحاضرها عبر قفزات زمنية رشيقة، لا تُربك القارئ. بل اعتمد التمهيد بسلاسة عند تحول السرد والرجوع إلى الماضي، والمثال على ذلك تقديمه شخصية جوفياني، والانتقال إلى طفولته وماضيه في الملجأ، ثم كيف تبناه كارلوس مدير الملجأ بسبب تنبهه إلى ذكائه الحاد، وإحساسه بضرورة رعايته، كي يتمكن من تحقيق منجزات في هذه الحياة، وقد صدق حدسه. ثم يأتي السرد أكثر حميمية، وهو يتدفق مع صوت جوفياني حين يتكلم بضمير الأنا واصفاً شيخوخته وآلامه: “من أنت أيها الغريب المقطوع من شجرة؟ من أنت أيها الزارع في أرض الله حيرته بلا حسبان؟ أتموت مسلماً أم مسيحياً أم بلا دين؟ أتكون أنت قاهر نفسه لأجل اللاشيء وبلا شيء؟”.
تاريخ ذاتي

يتخذ السرد في الرواية منذ الفصل الخامس، وحتى الأخير شكلاً دائرياً، بعد أن كان استرجاعياً لماضي جيوفاني. ولكن عند وصول القارئ إلى الصفحات الأخيرة، ينغلق السرد على الدائرة التي فتحها جوفياني حول ماضيه، واقتراب قدوم ابنه عثمان من السفر، وأمله في أن يحافظ على إرثه الحضاري والثقافي، الذي جمعه على مدار حياته الطويلة.

يلتحم صوت الراوي في كثير من المقاطع، بصوت البطل السارد، وتتراوح الرواية في حركتها السردية بين التاريخ وتحولات الأماكن، وتغير هوياتها الجغرافية، التي تنعكس بلا شك على تحولات البشر وهوياتهم الواقعية والنفسية، وبين الأسئلة الوجودية العالقة بلا يقين، كأن يفكر جوفياني متسائلاً: “هل نحن نختار وجودنا وصيرورتنا، أم أن الحياة تختار لنا؟”. أو أن يفترض سؤالاً يطرحه في مخيلته على الروائي اليوناني نيكوس كزانتزاكيس، يقول له: “أترى أنني أسير في عالم حقيقي أم متخيل؟”. هذا إلى جانب خيالات الشباب الملتبسة، وأوهام التقدم في السن لدى رجل عجوز. ثم هناك الحقيقة الغائمة عن مخطوطة عمرها أكثر من ألف عام، يتحدث عنها جوفياني ويوحي بأنه سرقها من متحف وارسو. مخطوطة تتضمن حقائق عن حضارة النوبة، وقصة علاقتها بالمملكة التاريخية الغارقة في الماء، وصلة كل هذا بقارة أتلانتس، واحتمالية أن تكون تلك المملكة هي نفسها أتلانتس. تدور كل هذه الأفكار في ذهن العجوز جوفياني، تمضي بين الحقيقة وأوهام الشيخوخة، يقول: “قصة تلك المخطوطة، ربما تبدو حلماً بحد ذاتها، لكنه متأكد من حقيقتها يتحسسها بيده مصدقاً نفسه”.

في نطاق التحول الحضاري والثقافي داخل النص، يمكن التوقف أيضاً أمام شخصية عثمان، ابن جوفياني، الذي يُعتبر الشخصية المناقضة لوالده. هو رجل مادي حريص على المصلحة النفعية، على عكس جوفياني الهائم في البحث وعلم الآثار والملكوت اللاهوتي. اختار عثمان الهجرة إلى أستراليا، ثم زيارة مدينة الخرطوم حين يعرف بدنو أجَل والده. جوفياني كان يدرك قسوة ابنه، ويتعجب من الجحود الذي يعامله به، لكنه يتقبل هذه الحقيقة الوجودية بصدر رحب، معتبراً أن جحود عثمان رسالة أخرى من رسائل السماء الكثيرة لتعليمه الحكمة والصبر، من أجل الوصول لذاته الأعمق.

يعود عثمان برفقة زوجة يونانية، ترتدي الزي التقليدي السوداني وتنقش يديها بالحناء. في المقابل هناك امرأة أخرى، سودانية ثلاثينية يتزوجها جوفياني، ويناديها ريتا، على اسم زوجة كارلوس، المرأة التي ربته بعد مغادرة الملجأ. جوفياني ينادي كل النساء في حياته ريتا، حتى زوجته الأولى ليزا، تُصبح ريتا، تيمناً بالمرأة التي رعته في طفولته، الأم الكبرى التي قرأ عنها في مؤلفات ابن عربي، هذه الأم الروحية التي يختلف حضورها في حياة المرء عن أمه البيولوجية. تظل ريتا الجديدة معه وترعاه في أيامه الأخيرة، وتكتشف في شخصيته أبعاداً إنسانية رحبة، لم تكن لتجدها في رجل آخر.

يختم عماد البليك روايته المؤثرة، وحياة بطله مع فصل من أكثر الفصول عذوبة في السرد هو الفصل الأخير، الذي يتتبع فيه الكاتب رحلة موت العالم جوفياني. تنتهي حياته، من دون الوصول إلى يقين جازم، ترافقه الأسئلة التي حيرته طوال عمره إلى العالم الآخر، إلى “عالم ليس له صفة سوى الخيال والأحلام”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.