القوى السياسية في السودان بين معضلة الحرب وغياب الرؤية
على رغم فظاعة الحرب السودانية الجارية حتى اليوم منذ 15 أبريل (نيسان) الماضي، وفداحة ما تنطوي عليه من خسائر، فإن ما هو أخطر من ذلك، يتمثل في ما ينقص النخبة السياسية والثقافية في السودان من استصحاب إجماع على رؤية نظرية حول تقييم الصراع ضمن السياق التاريخي وقراءة الاحتمالات السياسية عندما تضع أوزارها.
في غياب اعتراف القوى السياسية جميعاً بأن هذه الحرب الجارية في الخرطوم هي في بعض تجلياتها الأساسية ترجمة حقيقية لفشل إدارة الدولة السودانية ما بعد الاستقلال وعجزها عن تحقيق تنمية حقيقية ومتوازنة، وأن أي تعام عن الاعتراف والإقرار بهذه الحقيقة سيكون بمثابة استمرار ضمني لسردية الصراع، إنما هو مجرد صب للزيت على نار الحرب.
في سياق التكهنات حيال الوضع السياسي ما بعد الحرب يخوض مثقفون وسياسيون سودانيون في نقاشات نظرية تنطوي على قياس عمومي فاسد في تصوراتهم للحال السياسية المحتملة ما بعد الحرب مستصحبين أحوالاً وأوضاعاً مقارنةً مع دول ومجتمعات أخرى لا تصلح لقياس حال السودان عليها، حتى وإن كانت تشبه الحالة السودانية في العموم.
فليس بالضرورة أن نتصور وضعاً لما بعد الحرب سيكون بالضرورة وضعاً ينطوي على بروز إجماع واعتراف من السودانيين كافة ببداية سياسية جديدة، وكأن الأوضاع حدثت عفواً وبقدرة قادر، أو أن ينتهي الصراع في القريب العاجل أوحتى ببقاء خريطة السودان كما هي.
الاحتمالات النظرية في تفكير النخبة السودانية تعكس إمعاناً في غيبوبة يمكن القول إنها لا تنتبه إلى جذور المعطيات التأسيسية التي تسببت في الحروب الأهلية التاريخية للسودان الحديث، تلك التي اندلعت فيها الحرب لأول مرة حتى ما قبل استقلال السودان في ما سمي آنذاك بـ” تمرد توريت” العسكري (مدينة تقع اليوم في جنوب السودان) الذي كان احتجاجاً عنيفاً على أوضاع ظالمة.
هذا النمط من التفكير الذي تعبر عنه قوى سياسية وحزبية وبعض المثقفين سيصب في إعادة إنتاج الشروط التي ظلت باستمرار تفرز أزمات متناسلة للسودان.
وفي إطار معاينة كل التمثيلات التي عكست تجليات إدارة التهميش التاريخي في ممارسات الدولة السودانية ما بعد الاستعمار بحق جماعات سودانية في الغرب والشرق والجنوب (الأماكن التي اندلعت فيها الحرب قبل أن تصل إلى الخرطوم) يمكن القول، إن هناك جهوداً نظرية رصينة وأبحاثاً علمية كتبها مثقفون كبار قدموا عرضاً وافياً للاختلالات النظرية والعملية كافة، التي صحبت ممارسات دولة ما بعد الاستقلال، وحذروا من الآثار الكارثية في المدى البعيد لذلك في ما نراه اليوم من أثر هذه الحرب التي اندلعت في الخرطوم قبل ستة أشهر.
إن مفكرين من طراز منصور خالد في كتابه “النخبة السودانية وإدمان الفشل” ومحمد سليمان محمد في كتابه “السودان… حروب الموارد والهوية”، وسلمان محمد أحمد سلمان في كتابه “انفصال جنوب السودان… دور ومسؤولية القوى السياسية الشمالية” وغيرهم من كبار الباحثين السودانيين كتبوا نظرياً في تلك الاختلالات المميتة التي صاحبت إدارة وممارسات سلطة الدولة السودانية ما بعد الاستعمار، لكن للأسف لم يصغ لهم أحد، حتى اندلعت هذه الحرب التي كانت في صيرورتها الأخيرة بمثابة عواقب ما أنذروا منه في كتاباتهم وأبحاثهم.
أخطر من الحرب يكمن في تأويلات القوى السياسية والحزبية وحتى بعض الرموز الثقافية وتنظيراتها المستندة إلى قراءات مضللة لاحتمالات ما بعد الحرب وفق قياسات فاسدة!
لقد كان أحد الإشكالات التي منعت من رؤية خطورة ذلك التهميش الذي أنتج الحروب السودانية كتعبيرات عنيفة عن اختلال التنمية، هو إهمال النخبة السياسية المتسلطة لكل الانتقادات النظرية الرصينة التي أنكرت ذلك التمكين الذي حظيت به أطراف سودانية دون أخرى.
منصور خالد اهتم بتفكيك أنظمة الوعي التي كرست لصناعة وعي وطني مزيف، حين بين خطورة ما ينطوي عليه إذا لم تصغ رؤية وطنية صحيحة تستدرك أخطار نهايات اختلال إدارة الدولة للسلطة، وهو ما حدث بعد ذلك مع حرب 15 أبريل في قلب الخرطوم.
ما كان يظنه كثيرون مسلمات في قضايا الهوية الوطنية السودانية لم يكن كذلك، إذ كشف منصور، مبكراً، عن المسكوت عنه من تناقضات أصول وعي المواطنة التي أصبحت صفاتها محصورة في فهم وسلوك أوتوقراطيين عكسا اقتراناً شرطياً يحصر نموذجاً مفترضاً ومضللاً لحقوق المواطنة عبر ممارسات تجعلها غالبةً على فئة معينة من المكونات الإثنية والمناطقية للسودان مع تطفيف أو حرمان من تلك الحقوق حيال بقية المكونات السودانية.
كانت آثار ذلك واضحةً في المصائر التي أدخلت مستقبل السودان في نفق مظلم، بلغ ذروة ظلامه مع انقلاب 30 يونيو (حزيران) 1989 الذي فجر تناقضات القنابل الزمنية الموقوتة للتهميش في حروب انفجرت في الجنوب والغرب والشرق، وصولاً إلى الخرطوم في 15 أبريل 2023.
كل ما ذكرنا آنفاً يطرح على النخبة السياسية السودانية تفكيراً واجباً يتأمل في مصائر ما بعد الحرب مصحوبةً بقراءة أسباب ما قبلها، فالاقتران الشرطي لهذه القراءة التاريخية هو الذي يمكن أن يؤدي إلى تفكير خارج الصندوق.
مع استصحاب حال أوضاع الصيرورة التاريخية لمسار إدارة الدولة في السودان، والقوى السياسية الثورية وضعفها وتناقضاتها التي فشلت في منع الحرب قبل وقوعها، يمكن القول إن التفكير الموضوعي في مآلات ما بعد الحرب والخيارات السياسية التي ينبغي أن يصار إليها لهو أمر لابد للقوى السياسية السودانية أن تدرك معه تماماً أنها تحتاج فيه إلى مساعدة ضرورية للتعاون مع المجتمع الإقليمي والدولي.
ما علمته القوى السياسية قبل الثورة على سبيل اليقين لم يمنع وقوع الحرب، وما أدركته اليوم تماماً بعد اندلاعها، يحيل بالضرورة إلى أنها ينقصها كثير من إمكانات استحقاق السوية الوطنية، لا سيما في ظل موازين القوى المأزومة التي تفرضها الحرب اليوم، لذا فإن مصير السودان بغير التفكير الحقيقي والاستعانة العقلانية بالمجتمع الإقليمي والدولي لا يمكن أن يبشر بخير.
بطبيعة الحال، يمكن لكثيرين التغني بأيديولوجيا الشعارات سواءً كانت إسلامية أو وطنية، للالتفاف على استحقاق ضرورة استعانة القوى السياسية السودانية الجادة بالمساعي الحميدة للمجتمع الإقليمي والدولي في التعاون معها بموضوعية وعقلانية سواء في مرحلة الحرب أو في رسم مصائر ممكنة لما بعد الحرب، حتى تتجاوز تناقضاتها.
الذي لا يدرك ولا يعتبر بالمصائر التي أصبح عليها السودان السياسي اليوم نتيجة لمسيرة أخطاء تاريخية لسلطة الدولة قبل عام 1989 وبعده، الذي حكمه انقلاب الإسلاميين منذ ذلك الحين، وبما جلبته نتائج سياساتهم الكارثية من مصير مأسوي للسودان، هو شخص يبيع الوهم ولن يدرك أبداً سر اهتمام المجتمع الإقليمي والدولي على مخلتف أجنداته بالسودان.