منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

📍السفير عبد الله الأزرق يكتب:📍المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (17)

0

📍عجائب رؤساء

من مسؤوليات الدبلوماسي أن يظل حريصاً على إحاطة حكومة بلاده بواقع ومعطيات وآليات العلاقات الدولية، لتبقى قيادة البلاد مُدركة لتعقيدات المشهد الدولي.

وليس أضرَّ على الدول من جهل قياداتها بتلك المعطيات؛ لأنها إن جهلتها فستقود بلادها بالشعارات والأهواء والتفكير الرغائبي Wishful Thinking، وهذا كفيل بأن يوردها المهالك.

ولكن حين يطغى الحكام، تتملكهم نزواتهم وغرائزهم وأهواؤهم؛ وقد يبلغون درجةً تجعلهم يعتقدون أن لهم تأثيراً كفيلاً بتغيير العالم؛ بل أنهم مكلَّفون بتغيير العالم. وهذه الحالة التي اعترت كل الطغاة، وأقوى أمثلتها معمر القذافي.
ويبدو كأن حالة العيش في عالم الأوهام هذا معد. فقد كان سيف الإسلام يتحدث عن أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير “صديق العائلة”، هكذا بكل سذاجة.

وحين يصل الحاكم الطاغية ومن حوله من الطغاة الصغار لتلك الدرجة؛ لا تجدهم يسمعون نصيحة الناصحين من الدبلوماسيين العالمين بمفردات العلاقات الدولية والفاعلين فيها.
فالطاغية يعتقد أنه كالإله “بكل شيء عليم”.
وكان رئيس أفريقيا الوسطى جان بيديل بوكاسا يقول: إن الرئيس الفرنسي جاك شيراك “فرد من أعضاء أسرة بوكاسا”!!!!
هكذا ينفصل الحاكم المستبد عن الواقع ويعيش في أوهامه.

ومطلوب من الدبلوماسي اجتراح أفكار تجعل لبلده يداً عليا على البلاد الأخرى. ومن أمثلة ذلك أن الوزير دكتور مصطفى عثمان كان بصدد زيارة لدولة أفريقية، وكانت المجاعة تضرب أحد أقاليم تلك الدولة، الذي يسكنه مسلمون، اقترحتُ عليه أن يبلّغ رئيس تلك الدولة لدى لقائه به تبرع السودان بذرة لضحايا المجاعة.. ولأن ذلك الرئيس كان مقبلاً على انتخابات فيمكن أن يقول له: إن هذا الدعم مقدَّم له ليكسب أصوات أولئك المواطنين في الانتخابات.
استحسن دكتور مصطفى الفكرة.
وكانت مفاجأته لما اقترح على ذلك الرئيس الفكرة، أن الرئيس قال له:
“الحبوب هدية جيدة لكن الأفضل دولارات”.. ووضع يده تحت الطاولة التي أمامه في إشارة إلى أن تُسلَّم له سِرّاً.
وكانت صدمة دكتور مصطفى بالغة، إذ لم يصدق أن يصدر ذلك من رئيس.

وللسودان قصص كثيرة في هذا الصدد مع عدد من الرؤساء الأفارقة.
لكن عائد مثل هذه “الصداقات” جيد للسودان، من حيث دعمه في المحافل الدولية، وضروب دعم أخرى لم يَحِنْ بعدُ أوان الكشف عنها.

وهناك دولة يحب مسؤولوها “الطحنية وصواني الصُفرة”، ويطلبون كمية كبيرة من الطحنية وما لا يقل عن عشرة من “الصواني”، فكثرة تلك الصواني دليل فخامة في مآدبهم!!!
ولم تكن مثل تلك الطلبات وقفاً على الرؤساء، فزوجاتهم أيضاً كانت لهن طلبات!!
في مرة نظمت الخارجية برنامجاً مصاحباً لزوجة أحد الرؤساء.. وكلّفت دبلوماسية بمرافقتها في جولة بالعاصمة.. ولما مَرّ الموكب بشارع النيل أمدرمان، استرعى انتباه زوجة الرئيس الأفريقي منظر الأبواب الكبيرة لمداخل البيوت في أبي روف؛ فطلبت وقوف الموكب، وترجّلت عن السيارة، وأبدت إعجابها بتلك الأبواب؛ قائلة: إنه لا يوجد في بلادها أبواب بذلك الجمال، وإنها تريد اثنين منهما لمداخل قصرهم.
وبالفعل جرى شحن الأبواب في طائرة زوجها!!!

وطلبت زوجة رئيس مصوغات ذهبية لا يقل وزنها عن نصف كيلو من الذهب.. هكذا بكل جرأة!!!

تاريخ الكنغو مثال سيئ لعدم الاستقرار وتدخل الدول الغربية وشركاتها التي تنقب عن المعادن فيه.
فبعد استقلال الكنغو (30 يونيو 1960) بخمسة أيام، أعلن مويس تشومبي انفصال إقليم كاتنغا. ودعمت بلجيكا تشومبي وإقليمه المنفصل وأرسلت قوات لدعمه لتتمكن شركة المعادن البلجيكية من الاستئثار بمعادن الإقليم. وأسهم تشومبي مع بلجيكا في القبض على الثائر الوطني باتريس لوممبا وقتله أشنع قِتلة.
وظل عدم الاستقرار سائداً، بتمرد إثر تمرد؛ حتى انقلاب موبوتو سيسي سيكو.
ومن عجائب موبوتو أنه أعلن فوزه في انتخابات بنسبة 100%؛ وأعلن عودة الكنغو للأصول الأفريقية، فغيَّر اسم الكنغو إلى زائير، ودعا لنَبْذ الأسماء الأوروبية واختيار أسماء محلية أفريقية غير مسيحية؛ فغير اسمه هو نفسه من جوزيف ديزيري إلى موبوتو سيسي سيكو، وتعني “المجاهد الذي سينتصر ثم ينتصر دون أن يستطيع أحد إيقافه”..
وقِيل: إن معناه: “الديك الذي يُعاشر كل الدجاجات”!!!
وفرض أزياء شعبية مغايرة للزي الغربي؛ وغير اسم العُمْلَة والنهر (نهر الكنغو) تحت اسم زائير.

ومن بين عجائب ما لاقيت؛ وحين كنت بالإدارة الأفريقية برئاسة الوزارة فاجأتنا سفيرتنا في الكنغو الجنوبية أقنس لوكودو ببرقية تفيد أن وفداً كنغولياً برئاسة وزير غادر الكنغو في طريقه للخرطوم حاملاً رسالةً هامة من الرئيس للرئيس!!! ولم تفدنا بفحوى الرسالة!! وكان ذلك تصرفاً غريباً معيباً من سفير.
ولما استفسرناها، كما وجهنا مدير الإدارة السفير بابكر علي خليفة، أجابت أنها لا تعلم؛ مما زاد حيرتنا!!
وكان المدير السفير دكتور بابكر علي خليفة دبلوماسياً عالي التأهيل.

وصل الوفد إلى الخرطوم، وحاول الزميل المرافق له معرفة كُنه الرسالة فلم يجد تجاوباً من الوزير الكنغولي.
وكان أمراً أدخل وزارة الخارجية في غاية الحرج مع الرئيس.
ولما دخل الوزير على الرئيس تفاجأ بأن الرئيس الكنغولي يطالب السودان بتسليمهم ذهباً ومجوهرات زعم أن ثوار إقليم كاتنغا بقيادة مويس تشومبي أودعوها لدى السودان في ستينات القرن الماضي!!!
وأمام هذا الحرج البالغ لم يكن أمام الرئيس سوى أن قال لرئيس الوفد:
“سنبحث الأمر ونفيدكم”.

لم يكن تصرف السفيرة طبيعياً بريئاً، بل كان مُريباً؛ ولم نحمله في الخارجية محملاً حسناً، خاصة أن شُبهات كثيرة كانت تحوم حولها.. وأُخضعت جراء ذلك للاستجواب.
ولم تجد وزارة الخارجية في أضابيرها ما يثبت تسلّم حكومة السودان لكميات من الذهب والماس ومجوهرات أخرى من ثوار كاتنغا؛ مما ضاعف حَرَجَنا.

وفاقم الحرج أن الوزير الكنغولي ألَحّ بأن يُوافَى بما يفيد تسلم السودان لذلك الكنز.
وكتبت له الإدارة الأفريقية إفادة غير مُلزِمة ولا مُقيّدة Non-Commital Statement، فالسودان لا يملك ما يؤكد حدوث تلك الواقعة التاريخية.

📍السفير عبد الله الأزرق
—————————————
24 أكتوبر 2023

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.