منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

سيداحمد الحردلو يكتب: *زهاد العصر تركونا وراحوا….. أين هم فى الزحام الآن*

0

-1-
التحقنا بوزارة الخارجية فى 6 يناير عام 1966م ، وكنا عشرين من السكرتيرين الثوالث ، وادينا القسم امام رئيس الوزراء ووزير الخارجية الاستاذ محمد احمد محجوب ، وعلى يدي مولانا عوض الله صالح – عليهما رضوان الله – وطلب منى السفير كمال البكرى ، مدير عام الشئون الادارية والمالية وقتها ان ارد على كلمة الرئيس نيابة عن زملائى ، وقد فعلت ، ثم تم تقسيمنا على الادارات المختلفة ليقضى كل واحد منا بعض الوقت ، فى كل ادارة للتعرف على العمل – واذكر اننى بدأت بإدارة الاعلام والتى كان يديرها الاستاذ السفير سرالختم السنوسى ، والذى سبق ان درسنى فى مدرسة وادى سيدنا الثانوية ، ثم طلبنى السفير احمد الطيب الكردفانى ، مدير ادارة غرب اوربا لإنضم الى ادارته ، ثم انتقلت الى الادارة الافريقية التى كان يديرها السفير حسان المصباح ، ويعاونه الوزير المفوض ’’حينها‘‘ عبدالماجد بشير الاحمدى ، وذات صباح طلبا منى أن اعد تقريراً عن يهود الفلاشا الاثيوبيين ، ولم اكن قد سمعت بهم من قبل ، فإنكببت على القراءة والتنقيب فى مكتبة الخارجية ، ثم المكتبة المركزية بامدرمان ، ثم مكتبة جامعة الخرطوم ، ثم دار الوثائق القومية ، ثم داومت على قراءة الاهرام الاقتصادى ، والذى كان يحفل بمختلف الشؤون المعرفية ، واجتمعت لديّ مادة لابأس بها فصغتها فى تقرير رفعته اليهما ، فاحتفلا به وعمماهـ على مختلف الادارات والبعثات الدبلوماسية السودانية .
-2-
* ثم قررت الوزارة ارسالنا الى جامعة الخرطوم لدراسة القانون الدولى والعلاقات الدولية واللغة الفرنسية .. وبينما نحن كذلك قررت الوزارة خصم العلاوة من رواتبنا وكانت ’’15 جنيهاً‘‘ فقدنا اضراباً كان هو الاول والاخير فى تاريخ الدبلوماسية السودانية .
* وكان للوزارة وكيل حازم ومهاب ومثقف وعفيف يد ولسان هو السفير خليفة عباس ، وكان وما يزال يسكن فى الجيلى فى بيته الخاص – اطال الله عمرهـ – ذات عصر احتاج الى لوح ثلج فارسل سائقه ليجلبه له من الخرطوم ، لكن السائق المسكين لم يجد كيساً او جوالاً يضع فيه لوح الثلج فذهب الى الخارجية فوجد فى حوشها قديماً فاخذهـ وعاد ، فغضب الوكيل وطلب اليه اعادة الكيس للخارجية حالاً وفى الليل ، ودون انتظار الصباح – ’’اننا فقط نضرب الامثال!!‘‘ .
* وكانت دفعتنا قد اختارت السفير محجوب رضوان ’’السكرتير الثالث وقتها‘‘ مشرفاً على شؤون وجبة الفطور ، وكان كل صباح يجمع منا ما تيسر فيرسل احدا يعود بصحن كبير ملئ بالفول ، وكان محجوب يعطى كل واحد منا رغيفا وخبز ويوقف كل اربعة منا فى صف فيتقدم الصف الاول نحو قصعة الفول ياخذ لقمة ثم يعود للوراء .. فيتقدم الصف الثانى ، وكان ذلك امام حائط بعيد عن المبنى الرئيسى للوزارة حيث مكتب الوكيل – وذات صباح وبينما نحن كذلك اذا بالوكيل واقفا على بعد بضعة امتار منا وهو يصفق ويصرخ ’’الخارجية هاصت وجاطت .. اضراب ثم فطور بالصحانة والصفوف!!‘‘ – واصدر قراراً ذلك اليوم يمنع الفطور بالصحون وان يكون الفطور بالساندوتشات فقط !
-3-
ذات مساء وكنت ’’نوبتجياً‘‘ وكان هناك حفل استقبال فى حديقة الخارجية التى كانت على النيل الازرق ، وكان المحجوب قد ترك الخارجية وتفرغ لرئاسة الوزراء ، وكان ابراهيم المفتى قد اصبح وزيراً للخارجية ، سأل المحجوب الحاضرين ’’اين الحردلو؟‘‘ فإذا باحدهم يأتى لمكتبى ويقول لى مسرعاً ’’الرئيس عايزك‘‘ فخرجت مسرعاً فوجدته جالساً والجميع قيام بمن فيهم الوكيل بجلال قدرهـ ، وطلب منى الرئيس الجلوس بجانبه ، فترددت وانا استرق النظر للواقفين ، فإذا بالرئيس وبصوت سمعه الجميع يقول ’’اقعد‘‘ فجلست بجانبه وبدأنا نتحاور فى الادب والشعر وقصيدته الشهيرة ’’الفردوس المفقود‘‘ .
* وذات مساء دخلنا انا ومحمد عثمان النجومى ومحمود نديم الى فندق السودان ووجدناهـ جالساً وحوله عدد من الوزراء والصحفيين ، فسلمنا عليه وعليهم ، وجلسنا فى طاولة بعيدة عنه ، فإذا به ينادى ’’الجرسون‘‘ ويقول شيئاً لم نسمعه ، وبعد أن تناولنا العشاء ، ناديت على الجرسون لأدفع الحساب ، فإذا به يقول : ’’الرئيس قال حساب الحردلو والمعاهو مدفوع‘‘.
* وذات مرة كان هناك حفل عرس لإحدى كريماته ، وكان جالساً بعيداً عنا ، وكنت اتجاذب اطراف الحديث مع إحدى كريماته ، فسأل ’’الحردلو وين؟‘‘ فقيل له ’’إنه وفلانة جالسان هناك‘‘ فقال لهم :’’نادوهما الاثنين‘‘ وحين جئنا ، اجلسنا بجانبه ، وتحول الحديث الى الشعر والادب .
* كان ما يزال رئيسا للوزراء ووزيراً للخارجية ورئيسا للجنة الثلاثية حول اليمن ، وكان جمال محمد احمد قد اصبح وكيلاً للخارجية ، فاختارنى الرئيس ان اسافر معه للقاهرة لأنه كان على موعد مع جمال عبدالناصر ، كان ذلك فى الاسبوع الثالث من ديسمبر 1967م ، اعطانى الوكيل جمال ملفاً سريا وقال لى : ’’إذا اعطيت هذا الملف للرئيس بدون مقدمات تضعه فى ’’المود‘‘ فإنه لن يقرأهـ ، والافضل ان تفعل ذلك فى الطائرة‘‘ . اقلعت الطائرة من مطار الخرطوم ، وبعد نصف ساعة حملت الملف ودخلت للدرجة الاولى ، فوجدته جالسا فى الصف الاول وبجانبه الاستاذ داؤود عبداللطيف ، سلمت عليهما وجلست خلفهما ، وانشدت بعض ابيات من قصيدته الرائعة ’’الفردوس المفقود‘‘ ثم قلت له : اننى لم افهم معنى كلمة ’’زفزاف‘‘ فأطنب فى شرح المعنى وضرب بعض الامثال ، وهنا شعرت انه فى مزاج ممتاز ، فقلت له : ’’سيدى الرئيس .. انا اعرف انك تعرف كل مافى هذا الملف ، لكننى اقدمه لك من باب تنشيط الذاكرة‘‘ فأمسك بالملف وقرأهـ كاملاً ، وشعرت بزهو كبير .
* نزلنا فى فندق شبرد ، وزارهـ عدد كبير من اصدقائه المصريين ، خاصة الادباء واهل المسرح والصحافة ، وكان يسهر فى المساء ، فى بيت صديقه عبدالرحمن الخميسى ، وزوجته الممثلة فاتن الشوباشى .
* التقى عبدالناصر ، وانتهت الزيارة ، وكان العيد على الابواب ، وتحدد موعد عودتنا الى الخرطوم ، فاستأذنته فى ان يسمح لى بقضاء العيد فى القاهرة فاستجاب على الفور .
* وقد سبق ان قلت فى مقال سابق حين قال له السفيران عبدالكريم ميرغنى وابوبكر عثمان محمد صالح ’’إن تقرير البوليس عن الحردلو سيئ ، إذ يقول : إنه هاجمك فى خمس مقالات فى صحيفة الميدان ، وإنه يسارى‘‘ ردّ على الفور ’’تاخدوهـ أول واحد‘‘!.
* هؤلاء كانوا كبارنا فجئنى بمثلهم !!؟.
-4-
* عدت من القاهرة فى الاسبوع الاول من يناير عام 1968م ، وطلب منى الوكيل جمال محمد احمد ان اتولى رعاية صديق له اسمه جراهام تاير ، وهو يهودى ويعمل فى الـ ’’بي . بي .سي‘‘ ومتعاطف مع القضايا العربية ، وكان شخصاً ظريفاً ، اصبحنا اصدقاء حين عملت فى سفارتنا فى لندن أواخر ذلك العام ، اعطانى الوكيل سيارة وسائقاً وطفت على المدن الثلاث ومتحفي الخليفة والتأريخ ، وأخذته الى حفل خطوبة الصديق محجوب رضوان ، وكان صلاح بن البادية يغنى فصار جراهام يرقص مع الراقصين ، وفى المساء كنت آخذهـ الى مضيفة خارجية فى بيت محجوب محمد احمد شقيق جمال حيث كان يسكن هناك .
* ذات يوم قال لى الاستاذ جمال ’’نحن اليوم مدعوون الى عشاء فى منزل الاستاذ محجوب محمد صالح ، فأحضرهـ هناك ، حوالي الثامنة مساء‘‘ وذهبنا متأخرين قليلاً – كان المكان مكوناً من صالة وصالون ، شاهدت المشهد التالى فى الصالة عند دخولنا ’’الدكتور حسن الترابى والاستاذ عبدالخالق محجوب جالسان يتحادثان وعلى مبعدة منهما احمد سليمان المحامى وآخرين‘‘ قدمت جراهام لعبدالخالق والترابى ، وقلت له : ’’هذا زعيم الحزب الشيوعى السودانى ، وهذا زعيم الاخوان المسلمين‘‘ ’’برقت عيناهـ من خلف نظارته عجباً‘‘ ثم قدمت له الاستاذ احمد سليمان وانا اقول ’’انه من قيادات الحزب الشيوعى السودانى‘‘ ودخلنا الصالون ، وكان المشهد هكذا : ’’مختلف الوان الطيف السياسى‘‘ محمد احمد محجوب ، جمال محمد احمد ، بشير محمد سعيد ، يحى الفضلى ، محجوب محمد صالح ، محمد توفيق ، داؤود عبداللطيف ، الشريف حسين الهندى ، محجوب عثمان … إلخ‘‘ القائمة التى غاب عنى بعضها !!!.
* جلسنا جراهام تاير وانا قريباً من باب الصالون ، وبدأت احدثه بصوت خفيض عن اسماء وانتماءات الحاضرين السياسية ، فقال لي فى دهشة وإعجاب ’’إن هذا لايحدث حتى فى بريطانيا ام الديمقراطيات‘‘ ثم أضاف :’’خذنى الى الشيوعى والاسلامى ، وأستأذنتهما فى الجلوس معهما لأن هذا الرجل يريد أن يعرف عن ماذا تتحدثان ، ورويت لهما ما قاله لى فى الصالون .. فضحكا وتغيرت لغة الحوار الى الانجليزية ، وقالا فى صوت يكاد يكون واحداً ’’هذا هو السودان، إننا نختلف فى النهار ونتصافى فى الليل‘‘!.
* ترى اين ذهب كل هذا السودان المتسامح المتصالح ، الذى كان يختلف فى النهار ويتسامى فى الليل ؟!.
* وقبل انفضاض السهرة قال الاستاذ : بشير محمد سعيد وهو يخاطب الوكيل جمال محمد احمد ’’ارسل الحردلو الى السفارة فى لندن .. لتغسل له لندن هذهـ الافكار الناصرية التى عاد بها من القاهرة!‘‘.
ضحك الجميع وضحكت ، وسلكت سكتى الى بيتي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.