عثمان أبوزيد يكتب : *إنتر نوط!*
عثمان أبوزيد يكتب :
*إنتر نوط!*
● سوف يتذكر السودانيون أن أقسى أيام الحرب هي تلك الأيام التي انقطعت فيها خدمة الاتصالات عن البلاد.
استمعت خلال هذه الأيام إلى مقابلات تلفزيونية مع خبراء وصفوا الاتصالات بأنها (عصب الحياة).
● في هذه المناسبة هنا نتذكر بعض وسائل الاتصالات التي عرفناها في مقتبل عمرنا، مما قد يدخل العجب على جيل الألفية عندما يسمع عنها.
● أذكر في منتصف الستينيات اجتمع المواطنون في مسجد قريتنا واتفقوا على إرسال برقية (تلغراف) إلى الجمعية التأسيسية يطالبون بالدستور الإسلامي. ووقع الاختيار على شخصي لأتولى حمل البرقية إلى مكتب البوستة، فركبت حمارا مدة ساعتين لكي أصل إلى (بوستة فريج) كما كان اسم فرّيق يكتب في تلك الأيام.
● التلغراف هو وسيلة الاتصالات السريعة في ذلك الوقت. كان المواطن لو تعذر عليه الدخول إلى مسؤول حكومي بسبب تعنت سكرتاريته أو لانشغال مكتبه يذهب إلى مكتب البوستة ويبعث بتلغراف إلى المسؤول يحمل عبارة واحدة: مظلوم بالباب.
● وكانت الخطابات البريدية تأخذ أياما وربما أسابيع حتى تصل. والخطابات نوعان: عادي ومسجل (مسوكر)، والمسجل عادة يحمل تحويلا ماليا أو يحمل وثيقة مهمة، ولذلك يسمونه البريد المضمون.
وهناك الخطاب المغرم الذي يكون مرسله قد كتب على الظرف حرف T والخطاب عندئذ لا يتسلمه المرسل إليه إلا بعد دفع ثمن طابع البريد (قرشين). واليوم الذي يصل فيه البريد إلى مدرستنا يوم مشهود. يقف أحد عمال المدرسة يحمل رزمة الخطابات وينادي على الأسماء، وكل من يسمع اسمه يتقدم إلى العامل في زهو شديد ليأخذ خطابه بيمينه.
● الباخرة النيلية التي ترسو في محطة مدينة الدبة ونحن طلاب هناك، يسمونها (البوستة)، لأنها تحمل البريد فيما تحمل، ومندوب مكتب البريد هو أول من يصعد للباخرة يسلم الطرود المسافرة ويتسلم طرود البريد الواردة وينقلها إلى مكتب البريد.
● في فترة لاحقة رأينا الإرسال بالتلكس وهو مبرقة حديثة، أدخل نقلة في عالم الاتصالات لأن الرد غالبا يأتي على الفور.
أذكر كيف أنني أردت الحصول على مرجع من جامعة باث البريطانية، فذهبت إلى مكتب البريد في مدينة الرياض وبعثت ببرقية جوابية إلى أمين المكتبة بتلك الجامعة، فردت المكتبة في الحال بمعلومات تفصيلية عن المرجع الدراسي.
وحين أردت الحصول على معلومات من رسالة ماجستير في جامعة مصرية، لم أجد بدا من السفر للقاهرة للاطلاع على ذلك المرجع بعد أن قدمت طلبا إلى عميد الكلية. وقيل لي لا بد من وضع ورقة دمغة على الطلب، فسألت: أين أجد الدمغة؟ فيسر الله أمري حين وجدتها لدى عاملة من عاملات الكلية.
● ثم جاء عصر الفاكس، وصار من أعجب العجب أن تدخل ورقة في جهاز، فتخرج صورة طبق الأصل منها في مكان آخر.
● ثم جاء الانترنت وتوابعه، وما نزال نرقب التطور الهائل في الاتصالات حتى غدا البحث في موضوعها هو شأن المختصين في تخصص (الأعصاب)… ألم يقل الخبراء أن الاتصالات هي (عصب الحياة). كتبت العالمة سوزان قرينفيلد المتخصصة في دراسة الأعصاب كتابا فريدا عن الاتصالات عنوانه: التغير العقلي كيف تترك التقنيات الرقمية بصمتها على عقولنا.
● ونتذكر كيف أن البداية جاءت صعبة في أول ظهور الانترنت خاصة في الدول النامية.
كنا عام ٢٠٠٥م نزور دولة إفريقية، ونجري اتصالاتنا في الفندق الذي نقيم فيه بغرفة رجال الأعمال حيث وضعت أجهزة كمبيوتر. كان الدخول إلى الانترنت عملية شاقة جدا، إذ ينتظر طالب الخدمة أمام الكمبيوتر و(إنت وحظك). جلس إلى جواري على الجهاز أوروبي، أجرى عدة محاولات دون جدوى، وفي الأخير نهض ساخطا وهو يقول:
This is not Internet, this is INTERNOT.
● وفي الختام أذكر ما شاهدته في قصر الحجر بصنعاء، وهو القصر الشهير لإمام اليمن. في الطابق الأعلى من هذا القصر العجيب المبني فوق صخرة عظيمة، يوجد المكان الذي خصص للحمام الزاجل، ومنضدة كان يجلس إليها الشخص المكلف بإرسال البريد وتلقيه. وهو مكان مفتوح على الفضاء العريض.
ذكر الجاحظ (ت 255هـ) في كتابه “الحيوان” اهتمام العرب وولعهم بالحمام الزاجل الذي كانوا يُسمونه “حمام الهدّي”، بل كان عندهم دفاتر بأنساب الحمام كأنساب العرب، يقول: “ولولا الحمام الهدي (الزاجل)، لما جازَ أن يعلم أهل الرّقّة والموصل وبغداد ما كان بالبصرة وحدث بالكوفة في يوم واحد، حتى إن الحادثة لتكون بالكوفة غدوة (صباحا) فيعلمها أهل البصرة عشية ذلك.
رحم الله الجاحظ، ليته يعرف أنه بسبب الحرب انقطعت الاتصالات في كل بلاد السودان، فليس هناك شيء، لا فاكس ولا خطابات مسوكرة، ولا حتى حمام زاجل.