عز الدين ابو جمال يكتب : *مقالات في سسيولوجيا الواقع (4)*
تظل النقطة التي فاض عنها الماء هي محل تفكر المجتمعات التي في الغالب تكون عرضة للاهواء ،كون هذه المجتمعات تعيش في كنف منطقة (الميوعه الحضارية) فيسهل علي الانتهازيين اللعب علي العاطفه الجياشة التي تولدت من تراكمات أخطاء انتجها التفكير الحاضر لمجموعة استنفذت كل خيارات الإستمرار في السلطة وعجزت علي تقدم حلول انية تضمن العيش الكريم والاستقرار المطلوب.
فتعمد مجموعة الاستلاب علي توجيه العقل الجمعي بدقدقة عاطفة الكرهه علي تجاه الحالة الحاضرة عبر تصيد الأخطاء سواء فردية أو جماعية من ناحية وربط العواطف المطلوبة حبا بالاماني والامال وتعلية سقف المطلوبات وإن كانت زائفه وغير حقيقية .
وهنا تتم الإستجابة للاستلاب بعد ان تم استبعاد العقل المفكر حين يري النتائج ( النقطة التي فاض عنها الماء) دون النظر للتراكمات القبلية.
“واستلاب الوعي” هو القدرة الخارقة في السيطرة على العقل الجمعي للمجتمع، وإعادة تشكيله ليصبح كالآلة يُكرِّر ما يُضَخ داخله من مُدخلات عقيمة، ويؤمن بها بكل جوارحه مما تدفعه إلى الخلف وفقًا لأهواء صانعيها، وقد أطلق كارل ماركس في نظريته الماركسية مسمى (الإجماع الزائف) “على المعتقدات الامتثالية المُضلِّلة للجماعات الخاضعة والمُستغلَّة؛ لتؤمن بضرورة امتثالها للجهات التي تقوم باستغلالها فكريًّا”
وهنا لابد للإشارة لجزئية زكرها غوستاف لوبون الطبيب والمؤرخ الفرنسي ( 1841 ـ 1931 ) في كتابه الشهير ” سيكولوجيا الجماهير ” وهو مؤسس ” علم نفس الجماهير ” أن العقل الفردي يختلف عن العقل الجمعي في التفكير، فالأول قد يصل إلى قرارات منطقية، ولكنه إذا انجرف مع العقل الجمعي فقد يتصرف بصورة سلبية، ” ويمكن أن توجد هوة سحيقة بين عالم رياضيات شهير وصانع أحذيته على المستوى الفكري، ولكن من وجهة نظر المزاج والعقائد الإيمانية والولاءات القبلية فان الاختلاف معدوم غالبا، أو قل انه ضعيف جدا. وألا بماذا نفسر خروج أساتذة جامعيين ورجال فكر في مقدمة تظاهرات مليونية للولاء إلى رمز ديني أو مناسبة دينية أشار بها القائد الديني أو السياسي او زعيم قبيلة بسبابة أصبعه فهرعوا لمناصرته دون معرفة حقيقية للدوافع والأسباب ؟؟؟؟.
فماهي أسباب استسلام وخنوع مجتمع عقلي كامل والسماح باستلاب وعيه دون أدنى مقاومة!؟
أهو التوجس الجمعي من الرفض أمام قوانين وتقاليد المجتمع الصارمة؟ أم هي الثقة العمياء والمقدّسة بقوى لها تأثيرها الحتمي على المجتمع فتُصبِح أفكارها كالوحي المُنزّل الغير قابل للتأويل!
أم الرضوخ التام والاستسلام للواقع خوفًا من الاختلاف عن المعتقدات المجتمعية الموروثة!
هناك جوانب كثيرة مؤثرة في حياة المجتمعات الإنسانية كافة بمختلف ألوانها وأجناسها وأزمانها لها تأثيرات مباشرة في فرض اعتقاداتها وأفكارها؛ وأقواها الجانب الروحي والديني لدى الإنسان، فذلك الجانب ليس بحاجة إلى استخدام القوة لفرض أفكاره؛ حيث إنها تنساب إلى داخل الأرواح بقدسية مطلقة، ومن المؤسف استغلال توجهات فكرية أو جماعات دينية -في كافة الأزمنة والأديان- لهذا المنفذ الروحي للتوغل إلى العقول البشرية وتجميدها وفقًا لأهوائهم الذاتية، وتحقيقًا لأفكارهم الملوثة التي تحقق لهم مقاصد ومكاسب دنيوية،
وهناك مؤثرات أخرى قد تُستخدم لاستلاب الوعي الجمعي منها: (سياسية، ثقافية، اعلامية، فنية) لها تأثيرها بالدرجة الثانية للتعمّق في العقول وإحكام وثاقها وتقيّيدها وفقًا لرغباتها، والنتيجة المتوقعة مجتمع كامل من عقل تكويني واحد ينادي بقدسية تلك الأفكار سواء أكانت صحيحة أم خاطئة،
وبذلك تتشكّل “أيديولوجية المجتمع” من قِبل من يملكون التأثير العميق لتعميم افكارهم الوهمية، مما يدفع الناس داخل الكهف المُظلم إلى تقبّل الواقع المرير وتصديق رؤية الظِلال القاتمة على جدرانه وكأنها أمر حتمي وطبيعي ومألوف؛ وبعد خنوعهم التام لها تنتقل تلك الأفكار من خلال التنشئة الاجتماعية إلى الأجيال التالية؛ حتى تصبح جزءًا من معتقداتهم المقدّسة وركيزة أساسية للتماسك البنائي الاجتماعي للمجتمع.
وكأن العقول حينها قد اُخضِعت لتجربة “التنويم المغناطيسي” من قِبَل قوة خارجية لفترة زمنية، ثم استيقظت فجأة فأدركت الوهم الكبير الذي عاصرته وصدّقته، وتبدأ حينها بنفض غبار التلوث العقلي الذي أصابها ومحاولة إعادة بناءه وتنويره، فكل مجتمع انساني تم سلبه فكريًّا سيفيقُ يومًا ما من سباته العميق، وينتقل إلى مرحلة “صدمة الإفاقة” وسيجد أمامه فجوة عميقة تفصل بين أوهامه التي عاشها والحقيقة التي سيعيشها، ولابد أن يبذل مجهودًا كبيرًا لمحاولة التكيّف مع متغيرات الحياة الجديدة وفلترة عقله من التلوث الفكري السابق وإبداله بمفاهيم الحياة الطبيعية.
ولكن ماذا ما بعد صدمة الإفاقة؟؟
هناك من يتخطّاها بقفزة كبيرة نحو التحرر والانفتاح، وبطريقة خاطئة في محاولة بائسة منه لتعويض سنوات عمره المسلوبة وهو بذلك يهيِّج جِراحه أكثر من محاولة علاجها؛ وهناك من لا يزال قابعًا في سجن عقله؛ مقيدًا بأغلال الجمود الفكري؛ فيجد نفسه في غُربة فكرية وعزلة مجتمعية وصعوبة في التكيف مع المتغيرات التي حدثت دون وعي والاقتناع بها؛ والفئة المُعتدِلة من ضحايا استلاب الوعي هم مِمن استطاعوا بناء جسر مَرِن يربط بين المرحلتين المتناقضتين جدًّا وإيجاد لنوع من التوزان، والتماسك في حياتهم دون أي اختلال فكري أو ثقافي أو اجتماعي.
والآن وفي ظل هذا التشتت المعرفي المُنتشِر بقوة هائلة؛ والشهرة المُصّطنعة لصنّاع الفشل في مجتمعنا مِمن اعتلوا هرم القدوة “الفارغة” بمحتوى مُمزَّق لا يكاد يواري سوءاتهم.
هنا تظهر الحاجة لمجابهة هذا التحور الفكري وتحصين المجتمع من الانزلاق في هذا النفق المظلم وتقديم الواصفات الناجعه للأجيال القادمة تمزج بين التقيم العقلي المرتبط بالواقع والعاطفة المرتبطة بالاماني والامال والتطلعات المستقبيلة .
بكل التأكيد النموزج الذي نعيشه الآن في السودان هو ذلك الواقع المرير الذي فعل بنا عبر مراحل منذ زمن بعيد استخدمت فيه ادوات من التغييب عبر وسيط كان مهئيا اصلا في مجتمعنا ،جعل السياسية مدخلا للكسب وهدفا لبلوغ السلطة فكان صيدا سهلا في يد المتدخل الخارجي صاحب اليد العليا في استلاب عقلنا الجمعي، طوع لها المال الاقليمي والجوار الفقير ،ولا أبـالغ حين أقـول أن الكل أخطأ والكل ضـلَّ سعيـه، بسبب عـدم الإدراك وأزمـة اللاوعـى التى أصـابت الكثيـر من المتصدرين للمشهد السياسى والعمل العـام خاصة الانتهازيين بيداق المحور الاقليمي بسبب عـوامـل مختلفة، مما أثـر على المجتمع وجعله فى حـالة مشتتة، فمن المفترض أن تكون النخبة ( بساستها ومثقفيهـا وأدبائها ومفكريهـا) هى طليعة العقل والوعى والضميـر الجمعى، وأن يكـونـوا بمثـابـة البـوصـلة والمرآة للمجتمع التى توضح لأفـراده معـالم الطـريق وتحميهم من الأفكـار المنحـرفـة والشـاذة التى تهدد أمن وسلامة المجتمع،خـاصـة فى ظـل الحرب النفسية التى يتم ممارستها الآن على الشعب السوداني من خلال نشـر الأكـاذيب والمعلومـات المغلوطة المتعمدة وعمليات هدم الثـوابت الوطنية وتشـويـه التاريخ والحقائق والطعن والتشكيك فى كل مـا هـو وطنى ومرتبط بمفهوم الدولة والوطن ما هو معروف من الدين بالضرورة.
إن الـواجب على الجميع الآن فى هذه المرحلة الحرجـة والدقيقة من عمـر الوطـن أن يكـون على قـدر المسـؤولية وعلى مستوى الحدث، وأن يتخلى عـن الفلسفـة الفـارغـة والمراهقة الثـوريـة، ويجب على بعض النخب التى تملأ الشـاشـات والميديا( ثـرثـرة ) بالحديث عن الثـورة وعن أهداف الثـورة، وعن جمال الثـورة وحلاوة الثـورة، أن تنزل من عليـائهـا ومن أبـراجها العالية التى تسكنها، إلى أرض الواقـع وتتعامل مع تفاصيله ومعطيـاته، فلسنـا الآن فى رفـاهية التحليل والتنظيـر، لاسيمـا وأن المواطن الجالس فى منزله والمشرد والنازح عن وطنه سقـم من تلك الوجـوه المتكـررة ونقم عليها، لإحسـاسه بأنها تشغل وقتـاً من يومـه دون فائدة تعود عليه وعلى حيـاته اليـومية، وليس لها رأياً متزناً أو موقفاً ثـابتاً، فالكل يغنى على ليلاه، والكل هدفه المصلحة الشخصية أو بلغة العصـر ( كرسي السلطة) إلا من رحم ربى .
نواصل….
عزالدين ابوجمال
السبت 24 فبراير 2024
القاهرة