د. محمد بشير عبادي يكتب : *نهضتنا.. لن تحتاج لبيع الهواء*
د. محمد بشير عبادي يكتب :
*نهضتنا.. لن تحتاج لبيع الهواء*
قبل الحرب الدائرة الآن في السودان والتي نسأل الله تعالى أن تضع أوزارها قريباََ.. وبمبادرة ومجهود مقدر من شباب مدينة عطبرة تمت إنارة شوارع المدينة بالكامل، بإستخدام خلايا الطاقة الشمسية وقاموا بتسمية عطبرة ب”مدينة الأضواء”.. وجدت المبادرة تفاعل كبير من قبل المتابعين على مواقع التواصل الإجتماعي واعتبروا أن للشباب طاقات متفجرة يستحسن تحويلها إلى طاقة إيجابية لخدمة بلادهم.
في تقديري هكذا تكون “الأمة البناءة”.. أمة تصوب نحن أهدافها بدقة وتسعى لتحقيقها بتفكير جمعي بناء ونفير عام متوحد الصف، مقصده تحقيق المكاسب العامة التي تعود بالخير على البلاد والعباد.
إن ما قام به شباب عطبرة ينبغي أن يكون أنموذجاً يحتذى في كل ولايات البلاد، فالسودان متنوع التضاريس والمناخات وكثير من بقاعه ذات طبيعة خلابة، تنقصها الأيادي المبدعة التي تحول هذا التنوع إلى لوحة فنية جاذبة.. بقليل من الجهد وكثير من الهمة، يمكن إدارة مشروعات كبرى تحيل السودان إلى جنة على الأرض، كتبني مشروعات التشجير وتعبيد الطرق وترميم الآثار وإقامة الكورنيشهات على ضفاف الأنهار وعلى ساحل البحر الأحمر وغيرها من المشروعات ذات الجدوى الإقتصادية المباشرة أو غير المباشرة، كالسياحة وهي مورد مهم من موارد الاقتصاد والسودان أهل لذلك، حتى الجانب الصحي فإن إقامة مشاريع كهذي تسهم في صحة البيئة، فالشوارع المتربة وما فيها من تلوث هي سبب رئيس لكثير من الأمراض والأوبئة وظلمتها بجانب المهدد الأمني هي مبعث للكآبة ودليل موات،وبالمقابل نجد مثلاََ، أن الواجهات المائية المخططة والخضرة المنسقة هي من مصادر الطاقة الإيجابية للنفس البشرية وعلي المستوى المادي هي الحامية من سلبيات التغير المناخي..فمنذ القرن التاسع عشر، أصبحت الأنشطة البشرية هي المسبب الرئيس لتغير المناخ ويرجع ذلك بالأساس إلى حرق الوقود “الأحفوري”، (مثل الفحم والنفط والغاز) الذي ينتج غازات تحتبس الحرارة.. يقصد بالتغير المناخي، تغير درجات الحرارة بصورة طويلة الأمد، مما يؤثر على حيوات الناس ويحدث تغيرات ديموغرافية هائلة بسبب الفيضانات أو الجفاف وغيرها من تقلبات المناخ.. فبإقامة مثل هكذا مشاريع يحدث التوازن البيئي وهي الفطرة الإلهية التي فطر الله عز وجل عليها خلقه.. إن التوازن مبدأ ثابت نلمسه في جميع ماخلق الله من أشياء في هذا الكون، فكل شي فيه منظم ومنسق، فلا إضطراب فيه ولا عشوائية، ولا إختلال ولافوضوية ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾،فاذا حدث هذا الإختلال “بما كسبت أيدي الناس” ظهر الفساد في البر والبحر والكوارث والأوبئة وما وباء “كورونا” ببعيد عن الأذهان والأبدان والتاريخ يحفظ أحداثاََ كثيرة لوبائيات حصدت الناس كالطاعون، بل أهلكت أمم سابقة وحضارات بسبب هذا الإختلال.
كثير من الدول لإحداث هذا التوازن “صنعت” بيئة مشابهة للبيئة الطبيعية كالبحيرات والجزر الإصطناعية وإستزراع الأشجار والنباتات بعد إستصلاح الأراضي ومعالجتها فيزيائياََ وكيميائيا لذلك.
نحن في السودان لا حاجة لنا في صنعة كهذي، فقد حبانا الله جزراََ طبيعية بأعداد كبيرة وغابات ممتدة وصحاري شاسعة وواجهات مائية طويلة طولها يعد بمئات الأميال وتربة خصبة بكر تصلح لزراعة جميع أنواع الأشجار والنباتات.. فقط تحتاج لأفكار مبدعة وأياد فنانة، تنسق كل هذا الجمال الطبيعي في لوحة متناسقة، لن تكون مكلفة مالياََ ولا لجهد مضن كتلك المصنوعة..الأمر فقط يحتاج لخطط مبتكرة مدروسة وقبل ذلك إرادة قوية للتغيير نحو الأفضل.
لن أتحدث عن شوارع الخرطوم التي خربت ولا الإنارة التي أتلفت ولا الحدائق التي زبلت نباتاتها وهزلت وماتت حيواناتها ولا غابة السنط التي تحولت لوكر ترتكب فيه جميع أنواع الجرائم.. لن أتحدث عن ذلك وغيره، فهو معلوم للجميع ومن باب قفل هذا الملف السئ ، فإستجرار المرارات غير مجد والنظر للوراء يمنع التقدم إلى الأمام ولكن الذي أود قوله، يمكن تغيير هذا الواقع المحبط إلى غدٍ زاهر ومستقبل مشرق..إذا وصلنا لقناعة بضرورة التغيير والنهوض من هذه الكبوة.. هناك آلاف الأفكار وفكرة وهناك آلاف الطرائق وطريقة لإنفاذها ولكن من يفكر؟ ومن يُلهم الناس للتنفيذ؟.. هذي مسؤولية جماعية تبدأ من القاعدة إلى قمة الدولة “شباب عطبرة نموذج للقاعدة الملهمة”.
ينبغي أن يكون عمل ولاة الولايات الرئيس هو إقامة مشاريع التنمية، بعيداََ عن العمل السياسي بمفهومه التقليدي التعبوي، القائم على الشعارات والمهرجانات الخطابية، فالسياسة من “ساس يسوس” ، أي قيادة الناس وتوجيههم نحو مصالحهم والسعي في أسباب تحقيق هذه المصالح.. كثير من الشركات العالمية تسعى نحو تقديم خدماتها لجميع الدول، متنافسة فيما بينها حد الصراع وتقدم عروضاََ مغرية لإقامة المشاريع الخدمية المختلفة في مجال المواصلات والبنى التحتية والسياحة وغيرها وفق نظام (BOT) وهو إختصارا لـ (BUILD OPERATE TRANSFER) والتي تعني بالعربية، البناء والتشغيل والتحويل وهو نظام يقوم فيه المستثمر من القطاع الخاص بعد إعطائه ترخيص من جهة حكومية مختصة لأجل تشييد أو بناء مشروع بنية أساسية، مثل إنشاء محطة لتوليد الكهرباء أو إنشاء مطار وذلك على أن يقوم بتشغيله وإدارته بعد عملية الإنتهاء منه وذلك بإمتياز معيّن قد يكون مدته من (30-40) سنة،بعدها تعود ملكيته بالكامل للدولة.. لما لا يتبنى ولاة الولايات هكذا نظام والذي عبره يمكن إستقطاب كبريات الشركات وبيوتات الخبرة العالمية، فتحدث النهضة السريعة في البلاد،بعد هذه العقود العجاف التي عاشها السودان طوال حقبه الوطنية المتعاقبة.. نحن في عصر الإنفتاح والمصالح المتشابكة والمتقاطعة على المستوى الدولي، فلا ينبغي أن نضيق على أنفسنا بالنظرة الضيقة والتفكير المحدود والتخندق والتقوقع داخل أيدلوجيات محددة أو أقطاب ومحاور بعينها.. بالمفهوم العصري، يجب أن يكون السودان للجميع وليس السودان للسودانيين بالمفهوم الاستقلالي التقليدي.. أي أن ينفتح السودان على جميع الأمم، تبادلاََ للمنافع والمصالح وأن يكون مفيداََ ومستفيداََ، مع الحفاظ على هويته وقيمه وموروثاته ومصلحة شعبه..إن ما يملكه السودان من ثروات وبيئات في الريف والحضر، لا توجد حتى في أحلام شعوب لدول أخرى ومع ذلك نعيش في فقر ومسغبة، بل خيراتنا تذهب لغيرنا.. لدينا كنوز حقيقية ملموسة في كل المناحي لم تستغل بعد، هي كافية لنهضتنا، لا نحتاج معها لبيع الهواء أو اللعب بالبيضة والحجر، كما تفعل دول كثيرة حول العالم،نهضت وتقدمت من العدم.