صهيب حامد يكتب : *آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟.(٦-١٢)*
صهيب حامد يكتب :
*آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟.(٦-١٢)*
حسنا وكما أسلفنا في الحلقة السابقة فإننا إبتداءاً من هذه الحلقة سوف نقوم بمحاولة إعادة قراءة أو تقديم تأويل جديد للأسباب التي مكّنت سلطنة الفونج من خلق إستمرارية سياسية وسلطوية إمتدت لثلاثة قرون ونيف في بحر متلاطم الأمواج ومتباين المصالح والإرتباطات ، وكذلك ما هي الأسباب الموضوعية التي أدت لتفسخها ومن ثم إنهيارها!!. إذن وإستناداً إلى كافة المصادر التي بين أيدينا أنّه وإبتداءاً من ١٧٥٢م بدأ التفسخ التدريجي لنخبة البلاط السناري وذلك عبر عملية الإحلال المتعمد التي مارسها السلطان بادي الرابع ضد أسرة الأونساب لصالح َمجموعات النخبة الجديدة بالسلطنة والممثلة في الفقرا والأرابيب. وبما أن هذه العملية كانت تضمر إنحيازاً بيّناً لسلسلة النسب الأبوي العروبي لذا ظهر في المجتمع السناري إنطلاقا من هذا التاريخ نزوع متهوّس لإثبات أرومة النبلاء الفونجيين العروبية. وبالطبع فمن الواضح أن هذا النزوع كان براغماتياً هدفه الترقي و الإلتحاق بوظائف البلاط السناري. إذن ما علاقة ذلك بالتفسخ الذي حدث فيما بعد بالسلطنة!!؟. حسنا.. هل ذكرنا أن السلطان بادي الرابع لا يحظى من جانب الأم بأرومة أونسابية؟ وما إذا كان لذلك علاقة بعدم قدرته الإيفاء بمطلوبات تقديم نساء من أسرته كزوجات كريمات المحتد (أونسابيات) لمكوك ونبلاء بلاطات الأقاليم!!؟.
يؤكد أبو البنيوية الحديثة الفرنسي كلود ليفي ستراوس في كتابه الأساسي البنى الأولية للقرابة (بتبادل الهدايا ينجح الناس في إحلال التحالف..الهدايا والتجارة محل الحرب والعزلة والركود. لقد تقدمت المجتمعات بقدر ما كانت قادرة على تثبيت عقود العطاء والتلقي وإعادة الدفع) ويستطرد ليفي ستراوس بأن العلاقات التبادلية هي أساس السلطة والتنظيم الثنائي والحرب والتجارة والقرابة. فلقد إلتقط ليفي ستراوس مفهوم المبادلة أو التبادلية من سوسيولوجيست (Sociologist) فرنسي آخر هو مارسيل موس والذي بدوره يؤكد القيمة الطقوسية في الهدية ، فعلاقة الهدية هي شي آخر غير الإعطاء المباشر لأن الهدية شئ أكثر من المجموع البسيط لأجزائها ، فالهدية تقيم إلتزاماً بالمبادلة، ويستطرد موس بأنّ الهدية متشربة بالأساس بدلالة رمزية فهي واقعة إجتماعية بين الأفراد والمجموعات لها دلالة قانونية وأخلاقية وإقتصادية وجمالية وكذلك دينية!!. كذلك للهدية علاقة إجتماعية ملزمة لها طبيعة العقد بفضل الإلتزام بالتبادلية في جانب المتلقي. وهكذا كي نعلم أن تبادل الهدايا هو أصل (العقد الإجتماعي) ومن ثم أساس العلاقة بين الفرد والمجتمع. إذن هل الزوجة الأونسابية التي كان يقدمها السلطان للمك المتوج تواً في أحد بلاطات أقاليمه تقوم مقام الهدية؟. وهل يقيم إعطاء المرأة الأونسابية إلتزاماً بالتبادل من جانب مكوك الأقاليم؟ وما هي القيمة التي يدفعها هؤلاء المكوك مقابل هذا العطاء السلطاني؟. يقول ليفي ستراوس أن تبادل الهدايا بين الأفراد والجماعات يقيم إلتزاماً يؤسس لنظام متكامل للأمان بين المجموعات المانحة والمجموعات المتلقية، لأن الإهداء يصنع إلتزاماً دائما برد الهدية وكذلك قبول الهدية يصنع إلتزاماً بردها وهذه العملية التبادلية تشيع إحساساً من الممنونية وهذا ما يؤسس (أبستيما) الأمان إن جاز لنا الإستلاف من القاموس الفلسفي لميشيل فوكو. إذن ها هنا ندرك جذر الرشد الإجتماعي لدى المجتمعات قبل الدينية التي مارست حظر إتيان المحارم. فإستراتيجية حظر إتيان المحارم تستهدف بالمقام الأول خلق وفرة في الموارد النسائية (الأخوات وبنات الأصلاب) القابلة للتوزيع في إطار علاقات تبادلية خارجية تخلق الأمان للأسرة أو العشيرة او السلالة أو القبيلة أو الكيان السياسي (تزّوج في الخارج لا تقتل في الخارج).
هنا نكتشف الحقيقة التي أخفت نفسها عنا لأكثر من ثلاثة قرون!!؟. إذن فالإطار الثقافي الإجتماعي لسلطنة الفونج قبل الإنقلاب العروبي لبادي الرابع قد مكّن لتداول السلطة وفق قواعد صارمة تقوم على التوزيع العادل للموارد الشحيحة وأهمها نساء أسرة الاونساب ذوات الأرومة المقدسة وتنبع أهمية النساء من كونهن كائنات قابلة للتبادل وفي نفس الوقت ذوات قيمة مادية ودلالة معنوية وهي الخصائص التي كانت تتشاركها معهن كل من اللغة والسلع ككينونات قابلة للتبادل أيضاً، إذ أن اللغة كينونة تكتسب أهميتها بتبادل الكلام بين فردين أو أكثر ولكنها (أي اللغة) قد فقدت مع مرور الوقت قيمتها المادية واحتفظت بقيمتها كعلامة دلالية. اما السلع ففقدت قيمتها كعلامة دلالية مع إحتفاظها بقيمتها المادية. المرأة وحدها ضمن الثلاث كينونات القابلة للتبادل (الي جانب اللغة والسلع) قد حافظت على كينونة كونها علامة دلالية وأيضا كقيمة مادية وهكذا كي ندرك المنطق الثاوي خلف السلوك غير العقلاني لبعض المجموعات التي يمكن أن يموت آلاف الرجال فيها بسبب الصراع حول إمرأة!!. إن التوزيع العادل للنساء داخل السلطنة أنشأ رابطة دم (أموسية) بين مكوك الأقاليم بينهم وبين بعضهم من جهة وبينهم وبين السلطان بسنار من جهة أخرى وبله ضمنت هذه العلاقة التوزيع العادل لباقي الموارد الشحيحة (غير النساء) بالسلطنة!!. ليس ذلك فحسب ، بل يقوم المك بمنح نساء بلاطه الإقليمي لأتباعه في المستويات الأدنى داخل إقليمه بنفس الآلية كي يتضح لنا هول قوة قاعدة النظام السياسي الذي كانت تقوم عليه سلطنة الفونج!!.
ولكن منذ ١٧٥٢م فصاعدا تغير نظام الفكر السائد بالسلطنة القائم على قاعدة (النساء مقابل الأمان) والتي مثلت قمة الرشد في حس ممارسة السياسة لدى الفونج. كلما إلتزم السلطان القائم بهذه القاعدة ضَمنَ الأمن والإستقرار وكلما حاد عنها أو حدث أمر سبّب شحاً في المعروض من النساء الأونسابيات كلما إضطربت أحوال السلطنة. وهكذا صحّت بالف ولام العهد مقولة تايلور (تتزوج في الخارج لا تقتل في الخارج).إن إنقلاب بادي الرابع قرّب الحلفاء الجدد (الفقرا والأرابيب) على قاعدة الدستور العربي القائم على تفضيل النسب الذكوري. وهكذا أضعف نظام الفكر الجديد نظام التبادلية التقليدي القائم على تبادل نساء الأسرة السلطانية مع بلاطات الأقاليم ، فبادي الرابع نفسه ليس من أرومة أونسابية إلى جانب توتر علاقته مع أسرة الاونساب. وهكذا بدأ التفسخ التدريجي لأنظمة السلطة بسنار إلى أن إستولى الشيخ محمد أبو لكيلك على السلطة بإزاحة السلطان بادي الرابع في ١٧٦٢م. لقد كان الأونساب هم المحرضين الأساسيين لأبو لكيلك للإنقلاب على بادي ولكنه إنقلب عليهم أيضا أخيرا وبذا إنفلتت الأوضاع في السلطنة إلى الأبد مما سرّع الإنحدار التدريجي إلى سقوطها في يد محمد علي باشا في ١٨٢١م ، فإنقلاب أبو لكيلك ما كان له أن يحل مشكل السلطنة الذي أدّى لإنحدارها لأنه أشكال في جذر نظام الفكر الذي تفسح فتفسخ معه الإستقرار السياسي بالسلطنة.إن تفضيل النسب العربي تسبّب في إضعاف آلية (التبادلية) داخل البلاط، إذ أن التقاليد العربية تميل للزواج من جانب سلسلة الأب الذكورية. إذن إضعاف تبادل النساء داخل المجتمع الفونجي زاد من التوترات والنزعة الحربية داخل السلطنة ، إذ يقول ليفي ستراوس أنّ هناك إستمراراً جوهريا بين الحرب والتجارة اللذين ليسا نمطين من علاقة التعايش بل بالأحرى وجهان متعارضان لا فكاك منهما للعملية الاجتماعية الواحدة (العملية التبادلية).. نواصل.