منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

صهيب حامد يكتب : *آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (٧-١٢)*

0

صهيب حامد يكتب :

*آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (٧-١٢)*

صهيب حامد
إذن وكما أسلفنا في الحلقة السابقة ، فلقد أضعفت النخبة الجديدة المستعربة التي ظهرت في البلاط السناري أبتداءا من ١٧٥٢م وصاعدا بقيادة بادي الرابع وحلفائه (الفقرا والأرابيب) أقول أضعفت منظومة جهاز التبادلية الذي مثّلت المرأة الأونسابية عملته التداولية مما أدى للتفسخ التدريجي للنخبة الفونجية القديمة إلى سقوطها في ١٨٢١م على يد الأتراك. إذن هل يمكن القول أن مظاهر التعريب التي إعترت سلوك نخبة البلاط هي التي أدت لهذا التفسخ!!؟. ليس على وجه الدقة ، وكما أسلفنا فلقد كان ظهور المتصوفة والريال الإسباني في فضاء السلطنة قد خلق تحديات جديدة أضعفت بنية العقل السائدة (بنية وعي تناسلي) وهو الأمر الذي إستحث نمو وتفاعل بنية جديدة (بنية وعي برجوازي) خلقت نخبتها والتي بدورها من خلال الوعي الجديد إستطاعت الإستجابة لتحديات الوجود الاجتماعي والحضاري المستجدة. هل فعلا إستطاعت السلطنة عبر هذه المتغيرات أن تستجيب للتحولات الإقليمية والدولية التي كانت تدور حولها؟ فلقد طفرت مقدرات مملكة الفور من الغرب لسنار فزاحمت هذا الأخيرة إلى أن نزعت منها كردفان نهائيا في ١٧٨٤م. كذلك فلقد نزع الشايقية يدهم عن طاعة السلطان السناري منذ زمن مبكر مسيطرين على الحيز الشمالي من السلطنة ومانعين حركة القوافل إلى سنار مما فاقم الوضع الإقتصادي بها. كذلك أخيرا فلقد أدت المتغيرات في مصر لبروز نظام سياسي جديد هربت على إثره مجموعات المماليك إلى المنطقة بين الشلال الثاني والثالث وهو ما خلق واقع سياسي أثّر بشكل كبير على السلطنة. وهكذا كما أسلفنا لم تعد بنية الوعي القديمة قادرة على الإستجابة لهذه التحديات فطفرت متغيرات نشأت على إثرها بنية وعي جديدة (بنية وعي برجوازي) وهي بدورها خلقت نخبتها المستعربة وهي النخبة التي وجدها الأتراك تكاد تتجاوز وضعها الجنيني حين دخولهم السودان.

إذن فلنذهب خطوة للأمام بإستخدام نفس المنهج (التبادلية البنيوية) لنرى ما إذا سوف يعطينا قراءة موضوعية لحقبة الحكم التركي في السودان في الفترة من ١٨٢١م إلى ١٨٨٥م.يقول د. محمد سعيد القدال أن السودان قد صار في العهد التركي إمبراطورية شملت كيانات مختلفة كانت تمر بفترات متباينة في التطور الإجتماعي ولكنها ضٌمّت جميعها في كينونة سياسية واحدة شكّلت أساس الدولة السودانية الحديثة ، وهي كينونة فرضتها إحتياجات مصر في القرن التاسع عشر. يقول تاج السر عثمان بابو إنّ إحتلال مصر محمد علي باشا للسودان في ١٨٢١ يأتي في إطار إستراتيجية متكاملة لتعظيم التراكم الرأسمالي مما يمكّن محمد علي من تحقيق النهضة الصناعية والزراعية وبناء الجيش والدولة العصرية بمصر. وبالطبع يأتي ضمن ما ذكره بابو كهدف ثانوي للغزو الأهداف التي شاعت لدينا وهي مطاردة المماليك وإمداد الجيش العلوي بالرجال بدلا من العسكر الحردين من الأرناؤوط والتفتيش عن الذهب إلى جانب إكتشاف منابع النيل. إذن وكأولوية لتحقيق الهدف الإستراتيجي من غزو السودان يتوجب بناء قاعدة للحكم تستجيب للإحتياجات الإستعمارية. لقد كانت الخطوة الأولى في هذا المضمار هي تشكيل الرؤية الآيديولوجية لتحديد القوى الإجتماعية المحلية الصاعدة للمسرح السلطوي الجديد. إذن.. وإذا ما أعتبرنا الحكم التركي هو حقل كلية بديل لحقل الكلية القديم (الدولة الفونجية) فهو قد فرض وجوده على كيانات إجتماعية ودينية قائمة وفرض عليها كذلك التطور رجوعا لإحتياجاته وهي إحتياجات مادية تستهدف المراكمة الرأسمالية لموارد السودان مما يمكن محمد علي من إنفاذ خطته المتمثلة في بناء مصر العصرية. لقد تم إعادة إنتاج هذه الكيانات داخل حقل الكلية الجديد الذي تسيطر عليه معرفيا (بنية للوعي البرجوازي)، وقد تمت إعادة الإنتاج هذه بآليات ضبط القوة المادية (السلاح الناري) والقوة الآيديولوجية للسلطة الجديدة كبديل للآيديولوجية الفونجية وقاعدتها الإجتماعية الأونسابية.

إذن تأتي على رأس القوى الإجتماعية المحلية الداخلة في التحالف الجديد المجموعات التي تعرّبت في أواخر حقبة الفونج كإستراتيجية للحراك إلى السلطة وبالسلطة ، اذن وفي إطار نفس الإستراتيجية وائمت هذه القوى إحتياجاتها للتوافق مع الإحتياجات الإستعمارية. وعلى رأس هذه القوى يأتي الشايقية العدلاناب والحنكاب والسواراب ، فالأوائل هم بالاساس مجموعة عبدلابية يتأهّلون من سلفهم حمد السميح الذي خرج في مطلع القرن الثامن عشر حَردا من (قرّي) لخلاف مع أبناء عمومته مقيما في ديار الشايقية، ولدي الخلاف بين الملك عدلان والهمج في مطلع ثمانينيات القرن الثامن عشر إتخذوا جانب الملك عدلان لعلاقة الدم ومن هنا جاءت التسمية. أما الحنكاب فقد كانوا الفريق القوي الآخر في الشايقية ولكنهم مالئوا قضية الهمج. ورغم خلافاتهم فلقد إشتهر الشايقية بتوحدهم خلف القضية القومية أمام أي تهديد خارجي. في نهايات السلطنة تهيأ الشايقية لإقامة كيان سياسي موحد في الجزء الشمالي للسلطنة إذ برزوا كسيف ضارب مهددين حتى شندي والمتمة بغرب النيل وكما أسلفنا فقد كانوا يقطعون الطريق أمام القوافل المتجهة لسنار من البحر الاحمر ومصر. فلقد أستفاد الشايقية من عدة سمات أهمها ولعهم بالحرب ومهاراتهم في إستخدام السلاح الأبيض لذا فلقد مارسوا الزحف التدريجي داخل أرض النوبة النيليين الذين يقطنون بين الشلال الرابع والشلال الثاني فأحتلوا جزء من هذه الأرض وإسترقّوهم لفلاحتها حيث أبان نيكولز في كتابه (الشايقية) أن إسماعيل باشا لدى دخوله السودان حرر النوبة الذين كان يستخدمهم الشايقية في الزراعة لإعتقادهم أن فلاحة الأرض من إختصاص العبيد. لقد أقام الشايقية علائق ودية مع مملكتي الفور والودّاي َمما مكّنهم من الاستفادة من عوائد مرور القوافل والحجيج إلى البحر الأحمر. وهكذا طور الشايقية خصوصية حفّزتهم لإقامة كيان سياسي في الرقعة بين الشلال السادس والشلال الثاني وقد ساعدهم حالة الضعف المزري التي كانت تعيشها السلطنة بسبب صراعات البلاط بين الهمج والفونج. ولكن قطع هذاالنمو الجنيني تطوران مهمان غيرا مسار الأحداث.. الأول هو ظهور نفوذ المماليك الفارين أمام جحافل محمد علي باشا بعد مذبحة القلعة والذين سيطروا على المنطقة بين الشلال الثاني والشلال الثالث أبتداءا من ١٨١١م. أما التطور الثاني والخطير والذي نسف طموح الشايقية من أساسه هو دخول جيوش محمد علي باشا السودان بقيادة إبنه الأصغر إسماعيل الكامل باشا والذي دشّن لدخول السودان العصر الحديث ومنهياً معه حلم الشايقية في دولة تخصهم وإلى الأبد.

أما القوة الأخري التي شكلت الضلع الثالث في تحالف الحكم التركي في السودان كانت الطريقة الختمية. لقد أتت نشأة الطريقة الختمية في السودان كإستجابة إستعمارية فرضها تفكير محمد علي باشا في غزو السودان.لقد كان محمد عثمان الميرغني الختم الكبير في غاية الإمتنان للأتراك الذين أنقذوا الحركة الصوفية بالحجاز من بطش الحركة الوهابية بقيادة الشيخ محمد عبد الوهاب والذي إنتهج التسنن المتشدد بمذهب الشيخ أحمد بن حنبل. فلقدكان الميرغني أحد أقطاب التصوف في مكة تلميذا للشيخ الإدريسي إلى جانب الجزائري الشيخ السنوسي وقد ضيقت الحركة الوهابية عليهم مما أضعف نفوذهم وسط أتباعهم بمكة والمدينة والحجاز على وجه العموم. وهكذا أتى الميرغني الكبير السودان في ١٨١٧م كإستجابة فورية لطلب إبراهيم باشا قائد جيوش محمد علي باشا في الحجاز لتهيئة المجتمع السوداني للحكم التركي الذي حدث بعدها بثلاث سنوات في َ١٨٢١م. تمكّنت الختمية من التغلغل في كل من إقليم دنقلا (يشمل كامل الشمال النيلي الحالي) وكسلا وممتدة منها لسواكن ومنها إلى مصوع منتشرة من هناك إلى كامل التراب الإرتيري. لقد شكّلت الختمية الخطاب الديني الآيديولوجي للحكم التركي ومن ثم أصبح أتباعها (أغلبهم من الشايقية) عصب الجيش والدولة التركية في السودان. بالطبع هناك مجموعات إجتماعية أخرى دخلت في هذه الشراكة ولكن في حقب متأخرة نسبيا كالدناقلة الذين إجتذبهم محمد خير الاورباوي الذي عمل كموردللرقيق إنطلاقا من خمسينيات القرن التاسع عشر وهم من أوائل النوبيين الذين إستدمجوا وعياً عروبيا إلى جانب محس توتي والعيلفون لسكناهم في المدينة الاستعمارية (الخرطوم) بحي المراكبية الذي يشمل الآن المنطقة جنوب القصر الجمهوري إلى السكة حديد. كذلك وبعد أن أمن خورشيد باشا الجعليين في العام ١٨٣٠م إنخرطوا في العهد الجديد فسكنوا حي الترَس (المقرن الحالية) إلى أن إعتلوا مكانا عليا مثّل مظهره الأبرز الزبير باشا ود رحمة الذي لعب أدوارا مهمة في هذه الحقبة خصوصا في دارفور وبحر الغزال وعبر أقاربه (الياس باشا وأحمد بك دفع الله) بكردفان.

تاسّست آيديولوجية الحكم التركي في السودان أبتداءا من ١٨٢١م على أساس عروبي يعتمد تقسيم السودانيين لسادة وهم ذوي الأصل العربي أو من تعرّب إما قبل الغزو أو بعده والذين يحق لهم وفق نسخة الدولة الرسمية للإسلام السنّي (المالكية والشافعية والأحناف ممن صاحب شيوخها الحملة) قلت يحق لهم إسترقاق المجموعات السكانية الأخرى ممن تم توصيفهم كعبيد.كما تم تقسيم العمل لتختص المجموعة المستعربة (الشايقية وغيرهم) في التجارة وأعمال الدولة الإدارية (خصوصا التنظيمات الضريبية) والوظائف في القوات النظامية ، أما العمل الجسماني (الزراعة والحرف اليدوية) فتختص به مجموعة العبيد من العناصر الزنجية. وهكذا سيطرت ظاهرة الإستعلاء العرقي على المستوى الإجتماعي والإستبداد السياسي على مستوى الحكم.. نواصل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.