صهيب حامد يكتب : *آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟ (٨-١٢)*
صهيب حامد يكتب :
*آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟ (٨-١٢)*
حسنا.. وكما أسلفنا فلقد إستهدف الحكم التركي في السودان خلق تراكم رأسمالي عبر نهب موارد المجتمعات السودانية بهدف بناء الدولة العصرية بمصر. وكما هو معلوم فإن مصر عاشت منذ إنسحاب الحملة الفرنسية بقيادة نابليون في ١٨٠١م حقبة من الفوضى (Chaos) والفراغ السياسي إلى إستيلاء محمد علي باشا على السلطة في ١٨٠٥م. وكما أبان د. القدال في كتابه (تاريخ السودان الحديث) فإن السودان قد صار في العهد التركي إمبراطورية شملت كيانات مختلفة . لكن بالأحرى فلقد كانت هذا الكيانات تمر بمراحل تطور تاريخي مختلف. فمجموعات الشمال النيلي التي كان يحكمها مانجل قرى نيابة عن السلطان بسنار (الشايقية والجعليين وغيرهم) أقول هذه المجموعات بدأت الإنفلات التدريجي من فضاء بنية الوعي السائدة في السلطنة مدشنين الإنقلاب من سلسلة النسب الأموسي إلى الدستور العربي الذي يفضّل نقل الأرومة عبر سلسلة الذكور ، ذلك أولا ثم ثانيا فلقد إستقلت كذلك إقتصاديا وسياسيا (خصوصا الشايقية) مفضلين الإستفادة من دورة القوافل الآتية من دارفور وغرب أفريقيا إلى البحر الأحمر في قطع جدّي و بائن مع مصالح السلطان بسنار. لذا لم يدم صراع الشايقية مع إسماعيل باشا طويلا بعد معركة كورتي فتم الإتفاق وهو ما دشن الإلتحاق التاريخي لمجموعات الشمال النيلي بالبنية المتوسطية (Mediterranean) ممثلة في مصر وبذا تحدد الصاعدين الجدد لمسرح السلطة بالسودان إبتداءا من الحكم التركي وصاعدا. يقول د. محمود الزين “أن الإدارة التركية كانت تحتاج لأعوان محليين وسعيها لذلك قادها لإستقطاب و(توريط) بعض المجموعات المستعربة والتي بدورها كانت أو بالأحرى (مجبرة) للدخول في هذا التحالف، بالدرجة الأولى كي تحمي نفسها من الإسترقاق والتطهير العرقي ونهب الموارد كمخاوف جديدة كرَّسها مجئ الاتراك وإرهابهم”. إذن فلقد تحدد مصير باقي المجموعات السودانية خارج هذا التحالف إسترقاقا وتطهيرا عرقيا ونهبا للثروات و قد علقت في البنية القديمة معرفياً (الابستيمة الفنجية) . إذن مصر العلوية كانت قد تأهلت كدولة إستعمارية تسيطر علبها (بنية عقل برجوازي) لا يهمها سوى التراكم الرأسمالي ونهب خيرات الشعوب الأخرى وصار لا مناص لمجموعات الشمال النيلي سوى أن تكون جزءاً من هذه البنية.
كيف تم الإستيعاب البنيوي للمجموعات المستعربة من الشمال النيلي داخل أطر الحكم التركي في السودان !!؟. وهل يمكن لمفهوم التبادلية البنيوي أن يمنحنا إضاءة منطقية لكيفية إشتغال تحالف السلطة الجديد كالتي منحنا إياها نفس المفهوم بخصوص التحالف السلطوي بسلطنة الفونج!!؟…يقول كلود ليفي ستراوس في البنى الأولية للقرابة “أن قاعدة السلطة بنيوياً تتأسس كذلك على شروط التبادلية.. فالتبادلية نفسها تفترض مستويين وهما المتلقي والمعطي”، يواصل ليفي ستراوس “أن الخضوع نفسه تبادلي إذ أن الأولوية التي يحصل عليها نصف في إحدى المستويات تخسر لصالح النصف المقابل على مستوى مقابل” ، وهكذا تطور هذا المفهوم كأساس لنظرية تبادل السلطة. هنا نلاحظ وفي إطار التحليل البنيوي فلقد تغير موضوع المبادلة من التنازل عن النساء إلى التنازل عن جزء من السلطة وهو أمر ناتج عن تغير آلية التعقل أو تركيب العقل في حقبة الفونج منه إلى الحقبة التركية في السودان. في العصر الفونجي فقد سيطرت (بنية الوعي التناسلي) كإطار لقاعدة “النساء مقابل الأمان” بينما طفرت علامات جديدة ما بعد ١٨٢١م أدّت فيما بعد لبروز بنية جديدة “بنية عقل برجوازي” تستطيع الإستجابة للتحديات الإجتماعية والحضارية للكيان المحتل (الأتراك وورائهم ) وبذا تحولت قاعدة التحالف الجديد ل”الريع مقابل الأمان”. هنا نلاحظ زحزحة طفيفة حدثت في منهجنا ، إذ أضطررنا لإستلاف مفاهيم البنيوية اللا خطية لأن مفاهيم البنيوية الخطية (الستراوسية) تتقاصر أحيانا إزاء إحتياجات التبيئة الضرورية وهي هوة ردمها مفهوم “التحليل الفاعلي” الذي أتاح إمكانية تغير البنية أو تعايش البنيات “مفهوم الإحتياطي الإستراتيجي” لأستاذ أساتيذ الفلسفة السودانية الشيخ محمد الشيخ الذي إستطاع أن يحدث إختراقا في علم الرياضيات عبر نظرية (الحيوية) ومنه إشتق مفهوم البنيوية اللاخطية والعلم اللا إختزالي. إذن مما يثلج صدري حقا أنني من هنا فصاعدا سوف أستخدم نسخة بنيوية لا فرنسية (ستراوس) ولا سويسرية (دي سوسير وآلثوسير) ولكن سودانية بالف ولام العهد أتاحها الإختراق (breakthrough) الذي أنجزه أستاذنا “الشيخ محمد الشيخ” ، و لا أدري لم لا نرى مثل هذه الإختراقات من منسوبي المساق المهني للفلسفة في السودان (أقسام الفلسفة بالجامعات السودانية) فصاحب “التحليل الفاعلي” رحمه الله فيلسوف رياضي متخرجاً من كلية العلوم الرياضية !!!.
إذن فلقد إستدمج الحكم التركي بنية وعي برجوازي نمت وترعرعت في الوسط الإجتماعي النيلي وهي بنية تحكمها آليات تعقل مادي هدفها الأوحد مراكمة الخيرات المادية لصالح الحكم التركي أولا ومن بعدها المجموعات النيلية ، وبالطبع تتميز “بنية العقل البرجوازي” ببرنامج محدود جدا للعطاء لا يتجاوز هذه الفئات الإجتماعية وهي دائرة لا تتجاوز العاصمة الإستعمارية الخرطوم والشمال النيلي حدي الكثافة الديمغرافية وبذا صار باقي السودانيين نهبا لهذا التحالف ليس إستهدافا لمواردهم فحسب بل لحيواتهم نفسها إذ تعرضوا لأكبر هجمة إسترقاق في التاريخ لتكشف لنا أكثر الإحصائيات تسامحا أن السودان فقد في تلك الحقبة أكثر من نصف سكانه بسبب تلك الحملات. أما أهم خصائص النظام الإجتماعي لتلك الحقبة فهو مجتمع مادي إختار له الأتراك بإنتقائية آيديولوجية عروبية سنية تبيح إسترقاق الإنسان لأخيه الإنسان وإبادته عرقيا ونهب موارده بنصوص دينية مقتطعة من سياقاتها أو مشكوك في صحتها، ومن هنا بدأت آيديولوجية المركز العروبي التعرف على نفسها والتفهم الواعي لتكوينها ومن ثم الدخول في لعبة إستراتيجيات السيطرة بإختيارها لأسطورتها التأسيسية (إبراهيم جعل) مثلها مثل الأسطورة التأسيسية لأسرة الكيرا بمملكة الفور وأسطورة الأسرة الأونسابية لدى الفونج وأسطورة النابتاب لدى البجة!!.
إن إستراتيجيات السيطر ة في أي بنية تحكمها أنظمة معنى لا واعية، أو بالاحري فإن الوعي السطحي تحركه أنظمة اللاشعور لتحقيق إستراتيجيات إحتياز مركز السلطة والريع. وإلا ما هو المسوغ الذي أتاح للأسر الفونجية ممن بدؤوا مسيرة الإستعراب لتوهم قبيل الفتح التركي أن يكونوا الممثلين الرسميين لآيديولوجية المركز العروبي في السودان. فلقد تم نسقياً المزايدة على باقي العناصر العربية في السودان وذلك بإختيار الأصل العباسي لهذه المجموعة المستعربة وهو إختيار ماكر ينم عن دهاء آيديولوجي عميق، فالمجموعات الجهنية ذات الأصول القحطانية التي دخلت السودان هم العرب العاربة الافذاذ بعكس المجموعة العباسية (عدنانية الأصل) وهي مجموعات مستعربة. ولكن وبضربة لازب تم إبتزاز المجموعة الجهنية بالأصل العباسي لقربه من الارومة النبوية رغم أنف التسلسل الصلبي بعد ثبوت عقم الفضل بن العباس وهو الجد الثاني بعد العباس مباشرة في شجرة نسب (إبراهيم جعل)!!!. نفس الإنتحال الهوياتي (من هوية) حدث بالكربون في إطار نفس عملية المزايدة حيث تحاول الآن المجموعات النوبية المؤدلجة المطابقة بين إطار الحضارة الكوشية والحضارة النوبية لإثبات أن نوبة النيل الحاليين هم الورّاث الأفذاذ للحضارة الكوشية وبله حقهم الصميم في إقامة دولة تخص النوبة في الفضاء بين الشلال الأول والشلال السادس وهو ما تدحضه الأدلة التاريخية والآثارية واللغوية. إذن إبتداء من الحكم التركي وصاعدا إبتدأت المجموعات المستعربة في تفهم وممارسة إستراتيجيات السلطة وهو ما إكتسبته من إحتكاكها بالأتراك الذين قد إستفادوا مقابل ذلك بإستخدامهم في مراكمة الموارد الرأسمالية لبناء مصر كحلم يؤسس لحكم الأسرة العلوية التي إستمرت في حكم مصر إلى سقوطها في ١٩٥٢م علي يد الضباط الأحرار بقيادة البكباشي جمال عبد الناصر.. نواصل.