*كامل إدريس.. هل يغرق في شبر موية* د. ياسر محجوب الحسين
*كامل إدريس.. هل يغرق في شبر موية*
د. ياسر محجوب الحسين
كلما تأخّر إعلان حكومة كامل إدريس، ازدادت أمواج الإحباط في صدور الناس اضطرابا، وبدأ الأمل الذي استُقبل به الرجل يتراجع أمام مشهد يبدو مألوفا حدّ الملل: مشاورات لا تنتهي، ومناورات سياسية تعيد البلاد إلى دوّامة “اللت والعجن” التي عُرف بها الفعل السياسي السوداني. بدا كأن رئيس الوزراء الجديد، الذي جاء على صهوة تطلّعات شعب أنهكته الحرب والخيبات، قد دخل ذات النفق القديم الذي تاهت فيه الحكومات من قبل.
لقد كانت الآمال معلّقة على حكومة كفاءات تُعيد الاعتبار لمعيار المهنية والخبرة، وتقطع الطريق أمام لعنة المحاصصة. لكن ما تسرّب من مؤشرات يوحي بأن الرجل يتجه إلى تشكيل حكومة ترضيات وموازنات، تُرضي هذا الحزب وتُساير ذاك التيار، حتى لو أتى ذلك على حساب الكفاءة والجدارة. هكذا، يُعاد إنتاج المشهد البائس: وزارات تُمنح كجوائز ترضية، لا أدوات نهضة.
والأخطر من ذلك أن تشكيل الحكومة، حتى إن تم، لن يُرضي تلك القوى المتعطشة للمواقع؛ بل ستواصل ابتزازها المعتاد، وستدفع الحكومة إلى معارك استنزاف يومية في شرعيتها السياسية. الأسوأ أن كامل إدريس – إذا ما مضى في هذا المستنقع – ينحو إلى تهميش قوى فاعلة قاتلت في الميدان وساهمت في دحر مليشيا الدعم السريع، بينما يستمع لأصوات هامشية لا وزن لها في الشارع، ولا تمتلك سوى أرشيف من الحضور الموسمي والبيانات المتناثرة.
لقد قُدِّم كامل إدريس للرأي العام كوجه جديد، لم يُدنّس بثأرات السياسة وصراعاتها، رجلٌ يحمل على كتفيه سيرةً دولية جيدة، وأملا بديلاً عن رهق المحاصصات. لكنّ سلوكه حتى الآن يوحي إما بأنه مكبّل الإرادة، أو أنه اختار مجاراة الجميع على أمل إرضائهم، وهذه وصفة مضمونة للفشل؛ إذ لا يمكن بناء وطن على أرضية المجاملة، ولا يمكن الخروج من الحفرة بحفر أخرى.
إنّ الوقت الذي يُهدر الآن في اجتماعات ومشاورات عقيمة هو وقت مستقطع من رصيد الوطن، ومُستقطع من دماء الشهداء التي روت تراب السودان لتُثمر حرية وسلامًا وعدالة. وليس من الحكمة أن ينشغل رئيس الوزراء بسماع كل من رفع صوته، أو يلهث خلف “ترضية” كل من قرع الباب، حتى لو كانت أياديهم فارغة من الفعل والتاريخ.
لهذا، فإنّ واجب الوقت يفرض على كامل إدريس أن يرتفع فوق دوامة السجالات، وأن يتحرر من قبضة الأحزاب التي لا تتفق إلا على اقتسام الغنائم، ولا تتقن سوى البكاء على نصيبها من الكعكة. لا يجوز له أن يغرق في حوارات لا طائل منها مع وجوه فقدت صلاحيتها السياسية، ولم يعد لها مكان إلا في أرشيف الأخبار القديمة.
إنّ أجهزة الدولة القائمة، برغم ما يعتريها من عطب، تبقى أكثر صلابة وقدرة على الفعل من أحزاب فقدت البوصلة وتفرّق دمها بين الحارات السياسية. لدى هذه الأجهزة رصيد من الخبرات، ومؤسسات تعمل بمنطق الدولة لا بمنطق الحشود. ومن هنا، فإنّ تشكيل حكومة تكنوقراط من رحم هذه المؤسسات سيكون أكثر نجاعة من الانخراط في بازار الأحزاب، حيث تُباع الكفاءة بثمن رخيص.
ومما يثير الدهشة والأسى في آنٍ واحد، أن بعض التقارير الإعلامية انزلقت – عن قصد أو غيره – في مستنقع الترويج لتحليلات لا تعدو كونها ثرثرة مجالس، أو أمنيات لأطراف تسعى للتسلل إلى التشكيل الحكومي عبر أبواب خلفية. هذه التقارير المشبوهة لا ينبغي أن تُؤخذ على محمل الجد، فهي محاولة يائسة لرسم مشهد إعلامي مضلل، وفرض أمر واقع وهمي قبل أن يُحسم الواقع الحقيقي.
إنّ تشكيل الحكومة ليس سباقا للمناشدات، ولا نداءً مفتوحا للمتطلعين، بل هو مسؤولية تاريخية تتطلب الحسم لا التردد، والوضوح لا التذبذب. وعلى كامل إدريس، إن أراد أن ينجو من الغرق في “شبر موية”، أن يبني قراره على أساس القوة المؤسسية، لا المجاملة السياسية.
ولن يكتب لحكومة كامل إدريس النجاح ما لم يمتلك شجاعة اتخاذ القرار، وجرأة قول “لا” في وجه أصحاب الامتيازات القديمة. وحدها الشفافية الصارمة، وإعادة الهيبة إلى مجلس الوزراء، وضبط أداء الإعلام الحكومي، يمكن أن تعيد شيئًا من الثقة المفقودة.
إنّ الناس، في نهاية المطاف، لا ينتظرون خطبا ولا وعودا، بل يريدون سلطة تنفيذية تخرجهم من هذا التيه، وتعيد إليهم وطنا كاد أن يتلاشى. وكل لحظة يتأخر فيها القرار، تفقد الحكومة رصيدها الأخلاقي، وتتعاظم احتمالات فشلها.
فاحذر يا كامل إدريس.. أن تكون قد بدأت الغرق في شبر الموية.
19/06/2025
للاطلاع على مزيد من مقالات الكاتب:
https://shorturl.at/YcqOh