د. أليكسي جورافلييف يكتب : *”خطاب بلا بنية.. تحليل روسي لخطاب رئيس الوزراء السوداني”*
د. أليكسي جورافلييف يكتب :
*”خطاب بلا بنية.. تحليل روسي لخطاب رئيس الوزراء السوداني”*
د. أليكسي جورافلييف
باحث أول – معهد موسكو للعلاقات الدولية والاستراتيجيات الأفريقية
على مدار العقدين الماضيين، تابعت كخبير في النظم السياسية الانتقالية عدة حالات انهيار وبناء دول في أفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية. وبينما تتباين السياقات التاريخية، إلا أن ما يجمع بينها جميعًا هو لحظة ما بعد الانهيار، حين تأتي سلطة مدنية جديدة تحاول أن “تُعيد الدولة إلى الحياة” عبر إعلان نوايا. في السودان، كانت هذه اللحظة خطاب رئيس الوزراء كامل إدريس الذي ألقاه وسط دمار حرب طاحنة.
من منظور استراتيجي روسي، نقرأ هذا الخطاب ضمن إطار أوسع لا يكتفي بنوايا السياسي أو صورته الدولية، بل يضع الخطاب ضمن أربع زوايا:
1. تركيبة السلطة العميقة في البلاد
2. ديناميكيات المجتمع ما بعد الحرب
3. تأثير القوى الخارجية الفاعلة
4. الفجوة بين الخطاب والواقع الأمني والمؤسسي
أولًا: خطاب فوق دولة منهارة
الخطاب يتحدث بلغة “إعادة تأسيس الدولة”، لكنه يتجاهل الحقيقة الأساسية: أن الدولة السودانية الآن لا وجود مؤسسي فعلي لها. الجهاز الإداري منهك، الجيش منقسم، العاصمة محطمة، والولاءات السياسية والأمنية موزعة بين قوى متنازعة. هذا يعني أن أي مشروع للحوكمة الانتقالية لا يبدأ بالوزارات ولا بالمفوضيات، بل بإعادة بناء مركز السلطة ذاته.
في روسيا، تعلمنا من تجربة الشيشان الثانية أن القوة لا تُستعاد بخطابات توافقية ناعمة، بل ببناء المركز أولاً، وضمان أدوات الردع والتحكم. لم يظهر خطاب د. كامل إدريس أي إدراك لهذا المبدأ الأساسي.
ثانيًا: تغييب تحليل بنية العنف
في الدراسات الروسية لما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، توصلنا إلى أن الدول التي تدخل في حرب أهلية لا يمكن قيادتها بخطاب أخلاقي فقط. ما لم يتم تفكيك شبكات العنف، سواء كانت قبلية، جهوية، مليشياوية أو حتى دولية الارتباط، فإن كل مشروع مدني سيكون مجرد إعلان نوايا.
كامل إدريس لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى تفكيك هذه الشبكات. لم يضع تصورًا للأمن، ولا خطة لنزع السلاح، ولا حتى مقاربة لإعادة دمج المقاتلين. وهو بذلك يقفز فوق واحدة من أخطر القضايا في الدولة السودانية: اللامركزية المسلحة.
ثالثًا: تجاهل ميزان القوى الحقيقي
الخطاب بُني على “الشرعية الرمزية” لشخصية دولية، لكنه تجاهل تمامًا أن الشرعية في السودان اليوم لا تُستمد من السيرة الذاتية، بل من موازين القوة الواقعية. لا توجد حتى الآن سلطة مركزية قادرة على فرض القانون أو حتى حماية مقار الدولة، وبالتالي فإن إعلان حكومة من طرف واحد يُعد من الناحية السياسية إما مقامرة، أو سذاجة.
في روسيا، لا نثق بالفراغات. والسياسة لا تحب الفراغ. وغياب الإشارة إلى كيفية التعامل مع الأطراف العسكرية أو المسلحين، أو حتى الأحزاب السياسية، يعني أن الخطاب كان مُعدًا للغرب وليس للسودانيين.
رابعًا: تقليد لغة الأمم المتحدة بلا أدوات تنفيذية
الخطاب يعكس بصورة واضحة تأثيرًا عميقًا بلغة المؤسسات الدولية: مفوضيات، مجالس، لجان، شراكات. لكننا نعرف من خبرتنا في دراسة الفشل المؤسسي في الجمهوريات السوفييتية السابقة، أن بناء المؤسسات في بيئة مفككة لا ينجح إلا عندما يتوفر “محور مركزي” يحكم وينفذ ويموّل.
كامل إدريس لم يوضح من أين التمويل؟ من سينفذ؟ ما هي أدوات الرقابة؟ كيف سيتم تعيين كوادر الدولة؟ كل هذا يجعل الحديث عن “إعادة بناء الدولة” بلا سيقان.
خامسًا: مشروع بلا سلام
في الأدبيات الروسية حول الصراعات، من المعلوم أن السلام ليس فقط غياب الحرب، بل تفكيك الدوافع البنيوية للنزاع: الفقر، الإقصاء، الظلم التاريخي، الخوف من الآخر، شلل التنمية. خطاب رئيس الوزراء لم يطرح أي آلية للسلام، ولا حتى أسسًا لعدالة انتقالية. لم يُظهر أي استعداد للتفاوض أو بناء الثقة مع الفصائل المتنازعة.
وبالتالي يمكن وصف خطابه بأنه خطاب تجاوز المجتمع السوداني بالكامل، ولم يتحدث إلى مكونات هذا المجتمع. لم يعترف بالهامش، لم يستشعر دمار دارفور، لم يقترب من الخرطوم المهجورة، ولم يقل شيئًا عن الجنوب الجديد أو الشرق المحتقن.
ختاما
من منظور روسي واقعي، فإن خطاب كامل إدريس يبدو محاولة “لبناء جمهورية سويسرية وسط ركام مقديشو”. هو خطاب ينتمي إلى خيال نخبوي لا إلى وقائع الميدان. ورغم أن الرجل يتمتع بكاريزما خطابية وعلاقات دولية، إلا أنه فشل في تقديم رؤية حقيقية لإدارة بلد محطم.
وبالتالي، فإننا أمام حالة جديدة من “الشرعية الرمزية العابرة”، التي سرعان ما تنهار أمام واقع تتداخل فيه القبيلة، الدين، السوق، السلاح، والفراغ السياسي.
ربما كانت النية صادقة. وربما كان الحلم كبيرًا. لكن في السياسة الواقعية، وخاصة في الدول ما بعد الحرب، لا مكان للأحلام التي لا يسبقها فهم عميق للواقع، ولا تتكئ على أدوات القوة والبناء.
انتهي
تعليق
()()()()()()
لانه خطاب اتانا في وقت مفصلي اخضعناه بحسب ما متاح لنا لشتي لغات العالم وبمختلف أنماط التفكير ولانه يأتي في زمن ليس ملكنا وحدنا